نحن (العرب !) ذاكراتنا: قصيرة !. أو قل: نسمح لآخرين بأن يمعنوا في تشريح (رؤوسنا) حتى يصلوا إلى مراكز ذاكراتنا دون أن نطلب منهم ورقة السماح لهم بالعبور. فذاكراتنا مفعمة بالدهاليز والرفوف والمخابىء البدائية تحت نتوءات من الطين الذي اقترحه ديكورا لهذه المسرحية. مسرحية تريد عبر القوى التي تشدها خنقا أن تعيدنا إلى ما قبل التاريخ. وحين أقول التاريخ فإني لا بدّ أدخل التاريخ الإسلامي المورق معه. كون الأخير مزدحما بالتسامح والمغفرة والتواصل والتلاقي الإنساني. فأيام الضجة التي أعقبت نشر الرسوم المسيئة للرسول الأعظم (محمد) في الدنمرك اتضحت للعالم قوة الاعتراض الإسلامي وأهميته ومدى تأثيره في الجماهير.
لقد كانت التعليقات التي أعقبت نشر تلك الرسوم والتي صدرت من سياسيين لهم وزنهم وثقلهم العالمي متفاوتة - حدّ التآمر! - فالرئيس الأمريكي سجّل خطابا يحذر فيه قادة العالم جميعا من ردود الفعل التي ستأتي عبر أفعال انتحارية وتظاهرات غوغائية!، وفي ذات الوقت قال الرئيس الروسي بوتين إن على (الدنمركيين أن يطلبوا الصفح من المسلمين !) وأضاف إن معنى الحرية والديموقراطية ليس حرية التطاول على شخصيات تاريخية عرفت بالعدل والمساواة واكتسبت القداسة عند عدد من مليارات الجماهير.
بالمؤكد إن ذاكراتنا قصيرة!
فالمقاومة الفلسطينية ، وعبر عشرات من السنين كانت تقاتل بالوسائل المشروعة كل ما يمت للصهيونية بصلة. انتصرت وحسب الظروف التاريخية اقتنعت بالمقترح الدولي (دولتان متجاورتان وعاصمة فلسطين هي القدس الشرقية) وجاءت حركة المقاومة الإسلامية ح. م. ا. س وخرجت عن نص السلطة الوطنية الفلسطينية وخاضت حروبا جانبية وسارت خلف شعارات إسلاموية وتوزع ولاءها بين (ملالي) طهران. وجرّت إلى الوطن الفلسطيني العزيز ويلات تدخلاتها في شؤون داخلية لدول أكبر منها وأكثر رسوخا في المنظومة الدولية للأمم المتحدة وهذا ما دفع إلى اختلافات واسعة في وجهات النظر ، والسياسات والخطاب الثقافي والسياسي للأمة. إلى أن صارت (فلسطين) العزيزة وقضيتها التي نعتبرها قضيتنا المركزية والأم في الصفوف الخلفية من اهتماتنا. للأسف الشديد.
إننا ينبغي أن نعممّ في أذهان أولادنا أنه يجب عليهم أولا الإيمان بأنه لا بديل للوطن سوى هذا الوطن. وإن ما يجري من اختلافات هي (رؤى) ستتفق. عاجلا أو آجلا. ونؤكد على أن زمن الاغتصابات ، اغتصاب الإنسان واغتصاب الأوطان واغتصاب الحق ، ولىّ وجاء بعده زمن لا يعترف إلا بالحقيقيين. الناس الحقيقيون والمواطنون الحقيقيون. الذين يرفعون قيمة الوطن بالعلم والإيمان والنضال.
أمتنا العربية والإسلامية تفتقد اليوم إلى (المَثَل الأعلى) و(القدوة) تفتقد إلى ذكرى بطل كالأسطورة. وهذا الفقدان يؤدي إلى انتكاسات وهزائم تاريخية. وتصبح الذاكرة القصيرة في حالة شلل. رغم أنها لو كانت سليمة لقالت ما لا يستحسن قوله من أكاذيب تكون عبئت بواسطة العدو الذي لا يحمل من مسيحيته سوى كراهية المسلم وهي غير مبررة ولا منطقية.
وقوتنا (الناعمة) تتمثل في إرثنا الثقافي الذي يحيط بحياتنا ونتمثله ونعيشه ونعمل على خطاه ونتبع بيارقه. لدينا بحار - بل: محيطات ! - من الشعر ولدينا عشرة شعراء علّقت قصائدهم على جدار الكعبة بعد إن كتبت بماء الذهب. ولدينا بسبب ديننا بدائل للهلاك الوجودي. ذلك الذي ما أن يلج مشاعر قوم إلا وحوّلهم إلى فئة من الأشقياء الباحثين عن مرجعية المفتقدين للأب وهو ركن مهم في الحياة.
لست واعظا!. كما أنني لست (قدّيسا)!
لكنني متأمل. والتأمل رياضة فكرية وروحية وتجعلك كثير الخبرة بالأشياء حولك والأزمنة والأمكنة وتقلبات الفصول واختلاف الليل والنهار. إن التأمل فسحة تسرقها من الزمن لتخطو بواسطتها إلى مكان لم تكن تصدق وجوده. مكان السؤال لمَ فعلتَ هذا؟. ولم ُ لم تقم بفعل ذاك ؟!. وجع الأسئلة الذي ينتظر الذين لا يجيبون عن الأسئلة !. مؤكد أنك لم تعلق على حالة الطقس. يكون تعليقك - ابن الآن - جيد! إنكم بارعون في ملاحقة الأسئلة ووضعها في سياق الموضوع. حتى لتبدو وكأنها جزء من خطابكم الرئيسي. وليس يمكن للإنسان الذي يشاهدكم سوى الحكم عليكم بأنكم (جادّون!).
قال المناضل الكبير (نيلسون ما نديلّا) ذات مرة (إن الجبان يموت في اليوم مئة مرة ! ولكن الشجاع يموت مرة واحدة). تلك خلفية نقشتها سبع وعشرون عاما من السجن. حيث لا ظل إلا ظل السرر والجدران وبقايا عفن السجاير المتنوعة.