منذ أحمد بن علي المقريزي( 765- 845) هـ, والعتبات شبه معروفة, ولكنها المعرفة المقتضبة, سيما أن المقريزي باحث في التأريخ وليس في الأدب, حيث أشار إليها بقوله» واعلم أن عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح أي كتاب, وهي: الغرض, والعنوان, والمنفعة, والمرتبة, وصحة الكتاب, ومن أي صناعة هو, وكم فيه من أجزاء, وأي أنحاء التعاليم المستعملة فيه».
والمعلوم أن جيرار جنيت في مقالاته التي جمعها في كتاب أسماه المترجم عبد الحق بلعابد» عتبات» هو الذي توسع فيها, حين كان تابعًا لبيرنار فاليط, ومن قبلهما العالم السويسري فريدينان دي سوسير, الذي بشّر بعلم السيميلوجيا, والعتبات هي كل ما يحيط بالنص بدءًا من دفتي الكتاب وما بينهما من غلاف وعنوان ومؤلف وتعيين الجنس, والحواشي, والتنبيهات, والصفحة الأخيرة, وانتهاء بالنصوص المحاذية اللاحقة, وهي الاستجوابات الصحفية, والحوارات, والاعترافات, والشهادات.
والمظنون أن العتبات مفيدة عند قوم وبالضد من ذلك عند آخرين, حيث يرى مصطفى سلوي في مقالة له بعنوان» عتبات أم عتمات», في جريدة العلم المغربية2001م, أنها تفسد النقد أكثر مما تصلحه, والغريب أنه لا يلتفت إلى النصوص المحاذية للنص, إذ إنها توضح مقاصد الكاتب, فهو يعمم فساد العتبات دون تحديد.
لقد اختلفت الترجمة في هذه العتبات, فمن قائل إنها نص موازٍ, وقبلي, ولاحق, ومصاحب, ومناص...إلخ, ولكن الإشكالية ليست في المصطلح المترجم, وإنما في اجتراح النقد, حيث يختلف النقاد من ناقد إلى آخر في غير النصوص المحاذية, وعنيت ما يكون في الغلافين وما بينهما, ومن المعلوم أن العنوان بنية رحمية, تتوالد منه العنوانات داخل النص, وللناشر يد في اختيار العنوان على الأغلب كما الغلاف وما يكون فيه من صورة أو رسمة أو ألوان, لذلك؛ فإن الناقد لا ينقد عملاً لكاتب واحد, وإنما لكاتب وناشر.
إن نقد العتبات التي في الغلافين وما بينهما هيام وتهيام, وليس للناقد من حظ سوى الظنية, فلو أنني جئت بغلاف يشيح باللون الأزرق لقال الناقد: لون السماء والبحر, ويعبر عن البعد والمستقبل. ولو أنني نزعت الغلاف وأتيت بلون أسود للنص نفسه لقال: لون السواد ينذر بالحزن والألم, وظلامية المستقبل, وقرب النهاية المأساوية!!
إنني أقول هذا وفي يقيني أن العتبات غير المحاذية مظنة الاستئناس بها فحسب, إذ إنها لا تزودنا بقطعية نقدية, سيما إذا علمنا دور الناشر, أو حتى دور الرقيب ومقصه!
على أن العنوانات قد توافق وتخالف ما وضعت من أجله, إذ قد تكون في وادٍ وما تحتها في واد آخر, فلا قطعية هنا, وإنما مقاربة متكلفة في كثير من الأحايين.
إن العنوانات قد يكون لها دلالة واضحة في العلوم البحتة من هندسة وطب وسياسة...إلخ, ولكنها تكون مطاطية وزئبقية في الحقل الأدبي من شعر ونثر, وكم ترى من ناقد قد راح يضرب أخماسًا لأسداس عله يظفر بما هاتيك العتبات من دلالة, فيجد بضاعة المقل, فلا يلبث كثيرًا حتى يأتي من ينقض كلامه عتبة عتبة!!
إن على الناقد ألا يعوّل كثيرًا على العتبات, فقد يكون المظهر غير المخبر, وليس كل ما يلمع ذهبًا, ولربما نجد العذر للقسم المحاذي دون غيره.
على أن هذه المقالة في مسيس الحاجة إلى أنموذج تطبيقي, لذلك أجد رواية» وجوه بلا أجنحة»(2009م), للدكتور إبراهيم التركي جديرة بالوقوف عندها قليلاً:
فالعنوان وجوه بلا أجنحة, وصورة فتاة متنقبة في إطار أسود, وتلك الريشة اليتيمة للطائر بلون زهري, يعلوها العنوان, ولون الغلاف برتقالي, وفي أعلى الرواية خط بني, ومثله في الأسفل, وكلمة رواية في الأعلى على اليمين, واسم الروائي تحت صورة الفتاة.
إن انتقاب الفتاة دلالة على تخفي شخوص الرواية, وتلك الريشة بقايا تلك الأجنحة المندثرة والمفقودة, وذاك الإطار الأسود ينذر بالضبابية والعتمة, واللون البرتقالي المنتشر يعبر عن دلالات كثيرة, ولعل أهمها ما يكون لهذا اللون من رمز للحرية السياسية, إذا علمنا أن فكرة الرواية قائمة على الصراع بين المرأة والرجل, ونشدان الحرية ونبذ الإرهاب. أما الخطان فيعبران عن سقف الحرية, وعدم التجاوز, حيث إن الرواية محاصرة, بل مصفحة بحدود لا تتعداها تلك الشخوص.
المظنون هنا أن يأتي ناقد ويختلف معي كل الاختلاف, وينسف ما جئت به, وهنا تتشتت الدلالة المستقاة من العتبات غير المحاذية, ولا يبقى قول لقائل!!
. .إن المرء قد يقف على عتبة الدار فلا يؤذن له بالدخول, فصاحب الدار انطوائي وليس بمضياف, فكذلك النص, إذ قد يكون منغلقًا أمام العتبات, بل قد تكون عتبة الدار ليست من صنع صاحبها, إذ بُنيت له من أجل تجميل شارع الدار, وهو هنا الناشر الذي اختار الغلاف, بل ربما العنوان وبنيته الرحمية!!
أما العتبات المحاذية فهي أكثر العتبات توضيحًا للدلالة, حيث يقطع فيها المؤلف قول كل خطيب, حيث لا مجال للتأويل, ومن حق الناقد أن يعوّل عليها كثيرًا, بل ما شاء له التعويل. على أن ينـتبه لقول جيرار جينيت نفسه:» احذروا العتبات المحاذية».