د.فوزية أبو خالد
لا بد للمتابع من ملاحظة أن هناك جدلاً فكرياً على مستوى عربي بل عالمي يدور في الوسط الصحافي والأكاديمي والثقافي بشكل عام لإعادة النظر في طليعية دور النخبة الفكرية. ويحتدم هذا الجدل خاصة بانحسار السياسي التقدمي وتقدم التيارات السياسية البرجماتية والمحافظة القديمة والجديدة.
كما يشتد باشتداد رياح التغير التقني التي لا تكف يومياً عن سحب البساط من تحت أقدام كل أنواع النخب سياسية، دينية ثقافية فكرية الخ ومناولة مفاتيحها لقوى اجتماعية أخرى بمختلف المجتمعات, وتحديداً، قوى الشباب بمشاركة عريضة من النساء بمختلف انتماءاتهم ومواقعهم. ونظراً لأهمية هذا الجدل المتناهي وعلاقته اللا مباشرة بموضوع مقال اليوم، أشير إليه هنا. غير أنني لن أتوقف عنده ولا عند الجدلية المتبادلة بين ما صار يعرف بـ»موت النخبة» أو احتضارها وبين واقع البنى الاجتماعية التي تنتمي إليها, بل سأطرح الموضوع من منظور التساؤل عن بوصلة التحولات. ففي رأيي أن بوصلة الفكر وشعلته ستظل أمراً حاسماً في أي مسيرة بشرية مستنيرة سواء قادتها النخب أو شاركت في حمل رايات الرأي فيها جميع أطياف القوى الاجتماعية على اختلاف المجتمعات. وهو تساؤل أقر أنه تساؤل تبسيطي لواقع معقد وتحولات متذبذبة وغامضة. فهل من بوصلة للرأي المستنير اليوم تشارك في حل لغز التحولات الضبابية التي تلف عالمنا العربي منذ دخلنا في نفق ما بعد اختطاف الربيع العربي وتوزيع دمه ليس بين الدول وحسب بل وبين حراس الطائفية والمذهبية والعشائرية والمستقويين بها وبينهم وبين القوى الداخلية وقوى الهيمنة الخارجية بوجهها الاستعماري والامبريالي..
لا أدري أين ذهب الفكر العربي المستنير بتعدديته وتنوعه وباختلافاته الحضارية وبقدرته النقدية للذات وللموضوع للدولة وللمجتمع. بما كان يحاول أن يحلل الواقع الاجتماعي والسياسي ويواجه أوضاعه بغير الصمت أو فقاعات الكلام. وبما كان أيضا يحاول أن يحمل أمانة الكلمة وشجاعة الرأي ويحاول الاستبصار أو شق ركام الظلام. لا أدري أين ذهبت تلك القوائم العريضة للمستنيرين العرب التي استعرضها غازي القصيبي يرحمه الله في روايته العصفورية ولا نجد لأي منهم أو لأجيال لاحقة منهم أثراً, رغم أن العصفورية لم تعد مصحة في حي بالبنان يحمل ذلك الاسم الموحي بل تكاد تصبح رقعة الشطرنج التي يقيم عليها العالم العربي بأسره وتمتد له مختلف أيدي اللاعبين وقفزاتهم القذرة أو المعقمة.
وفي هذا فإن المفارقة الأولى مع الفارق الزمني في الوقت والمكان وطبيعة التحولات واختلاف الأجيال, أننا حين فتحنا عيوننا بل قبل أن نفتحها كانت هناك عدد من الأقلام التي تشكل رموزاً فكرية أو صحفية للفكر التقدمي والعروبي والاستنهاضي سواء على مستوى المملكة أو على مستوى الوطن العربي خاصة، فيما لا نكاد نجد ما يعد على أصابع يد واحدة من تلك العينة الآن. ومن تلك الأسماء المستنيرة على سبيل المثال لا الحصر مع تداخل أجيالها عبر النصف الثاني من القرن العشرين، الحصري وشميل وزريق والبستاني وطه حسين ولطفي السيد والرفاعي والعقاد، والقلماوي وأمينة السعيد وعائشة عبدالرحمن، ولطيفة زيات، عاشور, موسى سلامة، الطاهر حداد وعبدالكريم غلاب ولطفي وعاطف الخولي, بركات والوردي وسمير أمين وسمير نعيم، وعدوان، مصطفى محمود، زكي محمود، وغسان تويني وغسان كنفاني، وهشام عيسى وهشام الشرابي وهشام ظاهر، عابد الجابري، الحفني، مرتضى مطهري، محمد عمارة وكمال أبو المجد وفؤاد زكريا, الطرابيشي, عبدالوهاب المسيري, ومحمد الرميحي وعلي الكواري وإبراهيم غلوم, والنفيسة, والمقالح, إدوارد سعيد، ومن مجتمعنا، عبدالعزيز الجلال، عبدالعزيز الدخيل، أسامة عبدالرحمن, فاتنة شاكر, الطيب, محمد العلي, فهد الحارثي، المدني، الجفري، مشعل السديري، عبدالله مناع، تركي الحمد وقبلهم أحمد السباعي, حمزة شحاته، العواد, أحمد عبيد، حمد الجاسر، عبدالكريم الجهيمان، اليعقوب, القصيمي, عبدالجبار, بن خميس. وما ذكرناه ليس إلا عدد رمزي صغير من أطياف التنوير مع تفاوت ثقل الطروحات وتدرجاتها اللونية في الجذرية والتجديد وفي المصارحة أو المواربة وفي قراءة بوصلة التحولات باللمس أو بالاستبصار. ومع الأسف أنه حتى الأحياء منهم ومن أجيال لاحقة لم تعد طروحاتهم تشكل ثقلاً لفكر يستضاء به فيما ماعدا بصيص شحيح هنا وهناك.
أما المفارقة الثانية فهي, ومرة أخرى مع ملاحظة فوارق مراحل التاريخ الاجتماعي والسياسي بالمنطقة، أن تلك الأسماء كانت تطل من عدد من المطبوعات الدورية والمجلات الأسبوعية بل والصحف اليومية التي تحاول أن تبلور رأياً أو تشكل بوصلة رغم السقوف التي لم تكن يوماً في ذلك الزمن عالية ولا رحبة ورغم أن الوصول لتلك المنابر لم يكن سهلاً ولا متاحاً. هذا بينما تفتح لنا بمختلف أجيالنا اليوم أبواب ونوافذ من الإعلام المرئي والمقروء بأوعيته الثقافية الورقية والإلكترونية وبمطلاته الفضائية والشبكية وحضوره العيني في الندوات والمؤتمرات بما يعتبر قفزة نوعية على كل تواريخ تحريم الحريات, ونبقى مفغوري الحواس أمام ما يجري أمامنا من غموض وسرعة التحولات التي تجرنا نحو منايا لم نتمناها وحتوف لم نحتاط لطوفانها. والموجع أن ليس من بوصلة تعقلن التحولات أو تقرأ اتجاهاتها، فليس إلا ومضات نحيلة كأنها أخيلة ضوء وليست بضوء تومض بحياء في هذه أو تلك من المطبوعات أو المواقع الإلكترونية والمدونات, دون أن تكون قادرة ولو على تخيل ما يشبه خط بياني لمجريات الأحداث المتسارعة والمتفاقمة, ودون أن تكون قادرة على تشكيل رأي مبدئي عام, ناهيك عن أن تشكل بوصلة أو خارطة طريق لما يعصف بالمنطقة من محاق. فهي إنما تسوق نفسها باستعارة مفردات ومقالات متخبطة ضمن محاولاتها أن تستعيد الأمجاد المتخيلة لمختلف الاتجاهات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين أو مقالات قليلة تحاول نقد الذات فتصيب مرة أو تتعثر كمقالي هذا في شظايا الموضوعي والذات عدة مرات دون أن تصل بنا إلى ملمح بوصلة غير رغاوى راكضة من أحلام الصحو والمنام.
كنت أقول لنفسي ولعدد من الزميلات والزملاء بأحد محاضراتي عن تحديات التدريس الجامعي في هذه المرحلة من ثورة الاتصالات وانتكاسة الانتفاضات الشعبية، بأن من تحديات التدريس اليوم وخاصة في مجال العلوم الاجتماعية, أننا نقف أمام طلاب وطالبات يعرفون مختلف الأساليب الذكية للحصول على المعلومات بقدرات تتفوق على قدرات الكثير من الأساتذة.ولهذا فدور التعليم الجامعي تجاوز مرحلة توفير المعلومات وأصبح تحديه تحدياً سياسياً وفكرياً بقدر ما هو تحدٍ معرفي في كيف نعلم الطلاب تحليل المعلومة وفهمها فهماً كيفياً لتفكيك مغاليق الواقع وتحولاته الجارفة. ولا أظننا معشر الكتاب اليوم إلا ونواجه نفس التحدي التنويري الصعب في هذه الحلكة الخانقة على امتداد الوطن العربي, خاصة مقابل نقائضها الافتراضية من الحريات. فهل إلى الفكر التنويري الاستبصاري من بوصلة؟ ولن أجيب بقول هيهات بل سأذكر نفسي بمقولة إن الكاتب الضميري خصوصاً في اللحظات المصيرية مسؤول ليس فقط عما يستبصر بل إنه مسؤول أيضا عما يعمى عنه.