د. خيرية السقاف
مع أن توسع الإنسان في شغل المساحات الأكثر الأشع من سطح الأرض تفاقم في الحقبة الراهنة، إذ زحف بآلاته نحو الجبال فأزالها، والغابات فأحرقها، والمياه فدفنها،..
أحال الأرض إلى ناطحات سحاب، ومرتفعات بناء،..
تطاول فيها على طبيعتها، وعفويتها،..
وهو لا يزال يسطو ما شاءت له وقدة قريحته،.. وذكاء أفكاره،..
وزيادة نسله، وتنامي طموحاته، وتنوع حاجاته من ثم..!!
تلك الحاجات التي تتوالد، وتتكاثر، وتختلف، وتتنوع اضطراداً مع هذا التوسع..
مع كل هذا..،
إلا أنه حين تجهد قدماه، وتكل عيناه، وترهق أفكاره، وتضيق أنفاسه، وتفور عروقه،...!!
حين تخذله الآلة، وتخدعه الوسيلة، وتضلله المسافة، وتحيره الكثرة، وتضعفه التشابكات، ويخنقه الغموض، وتتكالب عليه المتضادات، وتوقعه الخيوط، وتحجِّمه قدرة صناعاته، وتخيبه فراغات معرفته،...
فإنه عند هذا، لا يجد نفسه إلا باسطاً نظره، ماداً فكره، هارباً بمخيلته نحو بقعة صغيرة من الأرض، وبساطاً قصيراً من النسيج، وكوب قهوة، وورقة وقلماً، ولقمة دافئة، وقطعة حلوى، ورشة عطر، وعندليباً على شجرة زهور يغرد له..،
ووجهاً يألفه، أو ذاتاً غائبة حاضرة..!!
باحثاً عن بيت من الشعر يترنم به في لحظة هروب من ضجيج هو الذي صنعه، لتغرق فيه فطرته، ونقاؤه..!!
إذ هو حقيقة، وطبيعة لا يحتاج إلى ناطحات قد لا تصل إليها رشفة ماء إن خذلته الوسائل،..
ولا إلى شاسعات لن تحمله فيها قدماه إن شحت الشاحذات،..
ولا إلى وثير عيش إن مرضت فيه أية سلامة..، أو حس..!!
إن فيء شجرة، ونبع ماء، وزقزقة عصفور، وترتيلة مطر، وراحة قلب، وصفاء ذهن، ومدى نظر في فضاء سماء فسيحة، وأرض تشمخ جبالها، تنوف أشجارها،.. يمارس فيها الهواء سلامَه، ويمنح تحياته..،
هي مكاسبه التي خسرها..،..!!
خسرها يقيناً وإن كابر، وبرر..!!
مع أنه لا يحتاج من الأرض إلا مساحة بطول قامته..،
قامته فقط..!!