د.محمد الشويعر
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير، الذي أكرمه ربه بالرسالة، وأكرم الأمة ببعثته للناس كافة، بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحابته الأخيار ومن سار على دربهم واقتفي أثرهم إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن امرأة لم تحظ في تاريخ الإسلام بمثل ما حظيت به خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها، قوة إيمان، وسابقة إلى الدين، ومواساة لرسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - في أحلك الظروف، وأضيق الشدائد.
فقد كانت أول امرأة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - رغم الفارق بينهما في السن، إِذْ هي على أصح الروايات أكبر منه بخمس عشرة سنة، وكانت خير سكن له في أصعب المواقف مصداقاً لقوله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إليها وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (21) سورة الروم)، وأول من شرح الله صدره لنور الله بعد ما نزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - لا سمع شيئاً يكرهه، من ردٍ عليه وتكذيبٍ له، فيحزنه إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها. (السيرة: 1:240).
وكان من ذكائها وفطنتها، أنها تحرص أن تطمئن رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - بأسلوب علمي وطريقة مقنعة، عن قناعة وثبات؛ بأن ما يأتيه إنما هو وحي من الله بواسطة ملك، وليس تبيعا من شياطين الجن، كما تفوه بذلك بعض المشركين، حيث حدّث إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير، أنه حدّث عن خديجة، أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : يا ابن عم، «هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - عندها إِذْ جاءه جبريل عليه السلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : هذا جبريل قد جاءني، فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم، قالت: اجلس على شقي الأيسر، فجلس، فقالت: هل تراه الآن: قال: نعم، قالت: فاجلس على شقي الأيمن، فجلس، فقالت: هل تراه الآن؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - فجلس، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قال: فتحسرت وألقت خمارها، فقالت: هل تراه؟ قال: لا، قالت: ما هذا شيطان، إن هذا لملك يا ابن عم، اثبت وابشر ثم آمنت به وشهدت أن الذي جاء به الحق. (أسد الغابة: 7: 82).
قال عنها الذهبي: سيدة نساء العالمين في زمانها. أم القاسم ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية الأسدية. أم أولاد رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - وأول من آمن به وصدقه قبل كل أحد وثبتت جأشه ومضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، ومن مناقبها جمة، وهي ممن كمل من النساء. كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة من أهل الجنة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلَّم - يثني عليها ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة كانت تقول: ما غِرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلَّم - لها.
ومن كرامتها عليه - صلى الله عليه وسلَّم - أنه لم يتزوج امرأة قبلها، وجاءه منها عدة أولاد ولم يتزوج عليها قط ولا تسرى إلى أن قضت نحبها فوجد لفقدها؛ فإنها كانت نعم القرين. وكانت تنفق عليه من مالها ويتجر هو - صلى الله عليه وسلَّم - لها.
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا نصب»... واللفظ للبخاري. (سير أعلام النبلاء 2: 109 - 110).
وأورد البخاري حديثاً في باب بدء الوحي، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.. إلى أن قالت: فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إِذْ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : أومخرجي هم، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي. (صحيح البخاري المسند 1:3 - 4).
قال عنها الزركلي في الأعلام: زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - الأولى، وكانت أسنّ منه بخمس عشرة سنة. ولدت بمكة، ونشأت في بيت شرف ويسار، ومات أبوها يوم الفجار، وتزوجت بأبي هالة بن زرارة التميمي فمات عنها. وكانت ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام، تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة. فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - الخامسة والعشرين خرج في تجارة لها إلى سوق بصرى (بحوران) وعاد رابحا، فدست له من عرض عليه الزواج بها، فأجاب، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسعد بن عبد العزى، فحضر وتزوجها رسول الله قبل النبوة، فولدت له القاسم وكان يكنى به، وعبد الله وهو الطاهر والطيب، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. وكان بين كل ولدين سنة. وكانت تسترضع لهم وتهيئ ذلك قبل أن تلد. ولما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - دعاها إلى الإسلام، فكانت أول من أسلم من الرجال والنساء. ومكثا يصليان سرا إلى أن ظهرت الدعوة، وأولاد النبي - صلى الله عليه وسلَّم - كلهم منها، غير إبراهيم ابن مارية. ولعبد الحميد الزهراوي كتاب في أخبارها سماه «خديجة أم المؤمنين» مطبوع، ومثله لبثينة توفيق. وتوفيت بمكة عام 3 ق.هـ (الأعلام للزركلي 2:346).
وقد وردت سيرتها رضي الله عنها في قرابة ثلاثين مصدراً، ولها فضائل عدة وردت في كتب الحديث، قال عنها كحالة في كتابه: أعلام النساء: ولدت سنة 68 قبل الهجرة، من بيت مجد وسؤدد ورياسة، فنشأت على التخلق بالأخلاق الحميدة، واتصفت بالحزم والعقل والعفة، حتى دعاها قومها في الجاهلية الطاهرة، وكانت خديجة رضي الله عنها تاجرة ذات مال، تستأجر الرجال في مالها، وتدفع لهم المال مضاربة، فيكون عيرها كعامة عير قريش. وبلغها عن الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - ما بلغها من صدقه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، وقول أبي طالب لابن أخيه - صلى الله عليه وسلَّم - : أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه خديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، فبعثت إليه - صلى الله عليه وسلم - خديجة رضي الله عنها، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة. فقَبِل ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - وخرج في مالها ومعه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، فباع سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد. ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة. فربحت تجارته ضعف ما كانت تربح، فأضعفت لرسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - ضعف ما سمت. (أعلام النساء 1: 326).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - ربما ذبح الشاة وقسمها في صواحب خديجة بعد وفاتها، لصلة من لا يوصل إلا عن طريقها. وقد عرف لها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - هذا الفضل، ففي قسمه الفيء وفي العطاء من بيت المال، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - ويقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار، لأن فيهم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - لأن خديجة منهم (المغني 9: 302). كما غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - على عائشة عندما أخذتها الغيرة، فنالت خديجة ببعض الكلام. وقد اختلف أهل العلم فيما تجوز فيه الشهادة بالاستفاضة غير النسب والولادة، فقال الحنابلة هو تسعة أشياء: النكاح والملك والمطلق، والوقف ومصرفه والموت والعتق، والولاء والولاية، والعزل، وبهذا قال أبو سعيد الأصطخري، وبعض أصحاب الشافعي، وكان من ضمن الاستشهاد على الاستفاضة القول: أشهد بأن خديجة وعائشة زوجتا رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - إِذْ كل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة (المغني 14: 142).