د.عبد الرحمن الحبيب
إعدام أسير حرب صار لا حول ولا قوة له، عمل لا إنساني، لكنه مفهوم مع احتدام معركة شرسة من أجل البقاء، أما أن يُحرق في قفص بطريقة يتمتع بها الجلاد ويبدع إخراجها سيناريو ومونتاج فتلك رسالة تكتيكية وحشية تستدعي التحليل وفهم خطط واضعيها..
كيف يخطط قادة تنظيم داعش؟ للإجابة علينا البحث في عدة محاور؛ ولعل أهمها إستراتيجية وتكتيك هذا التنظيم. ولمعرفة ذلك علينا فهم إستراتيجية السلفية الجهادية في نسختها المتطرفة وأهمها: تنظيم القاعدة. العمل الأساسي للقاعدة هو التفجيرات والعمليات الانتحارية دون الشروع في بناء دولة. لماذا لا تفكر القاعدة في بناء دولة أو إمارة، وتكتفي بالتفجيرات؟
إستراتيجية بن لادن تعتمد على التدمير التدريجي (الاستنزاف) لقوة العدو الأكبر «أمريكا» في البلاد المسلمة، وضرب كافة أنواع الوجود الغربي في المنطقة ومن يمثل مصالحها، أو ضربها حتى في عقر دارها جزاءً لأعمالها في منطقتنا، ومن ثم طردها، لأن أمريكا براجماتية ستدرك أنها متضررة وستخرج دون عودة. حينها سيغدو الأمر بسيطاً بالسيطرة على البلدان المسلمة لأن أنظمتها هشة كانت تحتمي بأمريكا، وفق تصور تنظيم القاعدة. هذه الإستراتيجية تمتد عند بعض مفكري السلفية الجهادية بضرورة مواصلة المواجهة مع الدول الغربية في بلدانها من أجل خلق الفوضى لديها وإسقاط دولها وليس فقط طردها من منطقتنا. فلماذا يريد هؤلاء إسقاط الدول الغربية، وماذا سيستفيدون؟.
يجيب على ذلك أحد منظري السلفية الجهادية، وهو أبو قتادة الفلسطيني، بأن البلدان التي قامت بها الثورات المسلحة (مثل: أفغانستان، الصومال، العراق، ليبيا، اليمن، سوريا) التي أسقطت الحكام هي «توحش» جزئي، أما إذا سقط نظام الولايات المتحدة الأمريكية وهي الدولة العالمية المركزية فسيكون مفهوم التوحش طبق بالكامل. سقوط أمريكا سيسبب الفوضى ويدمر الدول وينهي مفهوم الدولة. لماذا يريدون إنهاء الدول وليس بناءها؟.
يفرق أبو قتادة بين مفهومي «الدولة» و «الدار»، موضحاً أن «التوحش الجزئي» يلتقي مع مفهوم الدار أكثر من مفهوم الدولة، لأن «الدولة كيان رُسم على أساس الاستقرار، بينما الدار كيان رُسم على أساس الجهاد الذي يخرِّب مفهوم الاستقرار.. فمفهوم الدولة هو بناء عصري ليحقق المركزية التي تحقق مقاصد بانيها، ودولياً في هذا السياق بنيت طاغوتياً، ودولنا اليوم في هذا السياق..».. مشيراً إلى ضرورة بناء كيان سياسي بما يتلاءم مع الأهداف التي تسير عليها الحركات الجهادية، وليس إلى تبني الدولة المعاصرة حتى في صورتها الهيكلية. لماذا يرفضون هيكل الدولة الحالي؟.
السلفية الجهادية حسب هذا المنظور لا يمكنها بناء دولتها وفق هيكلية الدولة الحديثة لأنها ستكون محاصرة ومحاربة من قبل جميع الدول التي تشبهها هيكلياً وسيكون حتمياً هزيمتها، لذا عليها أولاً خلق فوضى عالمية في الدول الحديثة وإسقاطها ثم تأسيس دولتها أو دارها بهيكلية مختلفة تماماً عما نعرفه عن الدولة الحديثة.
يبدو أن هذا المشوار طويل جداً وبعيد المنال، حتى أن بعض الجهاديين من هذه المدرسة أعطاه نحو مائة عام. إنه منظور حالم يتطلب صبرا إيديولوجيا لا يطيقه بعض الجهاديين. فعندما ظهر أبو مصعب الزرقاوي كان مستعجلاً للانتقام والثأر من العدو الداخلي مبدلاً إستراتيجية بن لادن، بل قلبها رأساً على عقب.. وبعده بسنوات ظهر تنظيم داعش بنفس الحس الثأري من العدو الداخلي قبل أي عدو خارجي حتى لو كانت إسرائيل كما عبروا بذلك حرفياً. هؤلاء ليس فقط لا يطيقون الصبر لعدة أجيال بل لا يطيقوه حتى لعدة سنوات، فالمناطق الأولى التي سيطروا عليها أعلنوا في لحظات إمارتهم فيها، ثم ما لبثوا أن أعلنوا دولة الخلافة على عموم المسلمين، وكسبوا شعبية أكبر من القاعدة بين عوام متطرفي السلفية الجهادية. لكن هذه الدولة وفق أية هيكلية ستتكون؟
هنا ظهر الاختلاف جلياً مع تنظيم القاعدة زمانياً ومكانيا. فداعش التي تعتبر فرعاً متحرراً من القاعدة، لكي تبرر عدم قدرتها على الانتظار الزمني ألغت التأطير المكاني لبناء هيكلية جديدة للدولة أو الدار التي يريدها أمثال أبي قتادة وأخذت نمط الدولة المتوفر لديها. لكنها ستواجه مصاعب إيديولوجية في إقناع السلفيين الجهاديين بهذا التبدل الذي يبدو غير جهادي. هنا نصل إلى طريقة تفكير قادة داعش.
الطريقة الداعشية وفقا لما تقدم مبنية على أساسين. الأول هو أعمال العنف المنهجية بطريقة تنظيم القاعدة؛ والثاني هو العنف الثأري والانتقام العنيف من أعداء الداخل أو من أي مخالف لهم حتى لو كان من السلفيين الجهاديين، فداعش ترث من الأنظمة التي تُسقطها قمعاً بوليسياً عنيفاً. ولأن الثاني (غير الشرعي) يناقض الأول (الشرعي بمفهوم القاعدة)، مارس الدواعش مفهوما أكثر تشدداً دينياً من مفهوم القاعدة. وإذا كانت داعش فشلت بالخروج عن هيكل الدولة الحديثة، فإنها عوضت عن ذلك بالظهور بمظهر أكثر جهادية من جهاد القاعدة بأعمالها الأكثر عنفاً، باعتبار المزيد من العنف يعني المزيد من المصداقية الجهادية كما يرون.
العنف الذي يزداد شراسة تبديه داعش للمحافظة على شعبيتها المتنامية بين عوام متطرفي السلفية الجهادية مقارنة مع تنظيم القاعدة الذي يعلن أن هذا الأسلوب مدمر للعمل الجهادي وللسلفية الجهادية.. لذا تكرر داعش في شعارات دولتها عبارة «باقية وتتمدد»، موجهة رسالة لمخالفيهم من السلفيين الجهاديين فضلاً عن الآخرين الذين يؤكدون أنها زائلة حتماً.
قادة داعش يدمجون بين خيارين: الخيار التدريجي لتنظيم القاعدة بالعمل الانتحاري بأمل تدهور الدول الحديثة؛ وخيارهم السريع الانتقامي في بناء دولة تحارب كل دول العالم بأمل أن العناية الإلهية ستنصرهم.. وبين هذين الخيارين يفكر قادة داعش كانتحاريين وانتقاميين يمارسون أقسى وحشية يمكن أن يصلها السلوك البشري..عنف حاد يعبر عن حالة قهر ثأري.
لذلك في حرق الأسير معاذ الكساسبة، وقتل رهينة ياباني لا ناقة ولا جمل لبلاده في الصراع وقتل سيدة تعمل في الإغاثة! يريدون أن يقولوا نحن أقوياء شرسون نقاتل الجميع ولا نفاوض أحداً.. ويستخدمون أقسى أنواع العنف الثأري ليوضحوا مدى ثقتهم بقوتهم واستهتارهم بأعدائهم وبالجميع، فدولتهم «باقية وتتمدد»، كما يكررونها في كل زاوية من مناطقهم مما يشير إلى درجة حسهم الثأري فضلاً عن قلقهم الحاد بعدم البقاء.