د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
لن أتحدث عن الموهوبين المبدعين ومؤسسات احتضانهم في بلادي فقد كفاني شأنهم ذوو الاختصاص، إنما من هذا المنبر اقتحم مغامرة جاذبة في موضوع محفزات الإبداع، وهي شديدة الصلة بالإنسان؛ لأن فضاءات الإبداع مفتوحة، وتنطلق منها مهرجانات فاقعة الألوان،قد يُفلح المكان والبيئة في اختلاس بعض أضوائها، وقد تكون في غيابة الجُب، وربما يلتقطها بعض السيارة إن رافقها حسن الصدفة،
وربما انعتق المبدعون من وتيرة التقليد، وذهبوا يبحثون عمن يبحثون عنهم، وقد لا يحتاجون إلى معرفة الأصحاب ليخبروهم أنهم هناك ينتظرون بزوغ الفجر، ولكن قد يحتاجون إلى قراءة ذلك الإبداع وإدراكه، فالممتلئون يقتنعون بوجودهم، وما يلبثون إلا أن يباركوا الاصطفاف مع المبدعين، أما من هم دون ذلك فلا أحد يتناغم مع ألوان التراب التي قد تصبح تبراً لا يستطيعون شراءه، قال أحد الحكماء: «الرئيس هو ذلك الرجل الذي يتحمل المسؤولية، ولا يقول غُلب رجالي إنما يقول غُلبتُ أنا»، من هنا فإن غياب المحفزات المباشرة تفضي إلى نقص الرغبة في الإنجاز، وتقاصر القدرة على الإبداع، ومن المناسب أن نذكر أن بعض الثقافات الضحلة تدخل في منافسة تعجيزية مع المبدعين [والنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله] فيواجه المبدعون صعوبة في رسم حدودهم عندما تهطل عليهم طاقات الفكر، وقد يرون ذلك حقيبة مجهدة ينتقلون بها لكثير من الفضاءات وينشدون ذلك الاطمئنان الذي لا بد أن ينتشلوه من الصناديق المقفلة حتى لا يختلسها الآخر، وتذوب في سراديب النسيان، وقد يكون القاضي الذي سوف يفصل في هذه الجُنحة مثل ابن الملوّح حينما تحسّر على فقد ليلى وتمنى أنه لم يعرفها ولكنه عجز عن مطية الحل:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
فهلا بشيءٍ غير ليلى ابتلانيا
فالمبدعون في بيئاتهم الصغيرة لا بد أن يقفوا في موقف حقيقي من المصطلح، ولا يكونوا في هامشه ليستهلكوا الفُتات، وأن تقام لهم مواقع الإنتاج لتوليد ما يختزنون من طاقات، والاستفادة من الإضافات النوعية حيث يصنعون المعرفة المنتجة، ويفجرونها في القنوات والسواقي، ويحولونها إلى طاقات محتملة.
قال الله تعالى {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} طه (50)، والهداية للفطرة أولاً وللعقل النامي المفكر ثانياً، فالوطن جعل للمبدعين أولوية، وأشاد بهم ولهم، ولكن بعض البيئات المحيطة تقف أمام المبدعين ثم عندما تضيق بهم تجعلهم في ذيل اهتماماتهاـ وقد يُغلَّف الواقع ببعض الدعاية الممجوجة، ويفتقر بعضها للحفز والتحفيز.
وينبغي أن نكون في كل توجهاتنا نسير وراء المجتمع ومتطلباته، وليس وراء أنفسنا، فلا بد من الموقف المحايد الذي ينصف الإبداع ويُهيئ له البيئة التي تنمو فيها بذوره وتندى زهوره.
نعم إنه الإبداع المسكون بالابتكار والدهشة، وهو ما يمنح الموقف الإنساني مباهج لا تحصى.
وإذا ما أيقن المكان بأنّ الإبداع حركة واعية مفعمة؛ تهتك النمط المألوف، وتعيد صياغة السائد، واستنبات توجهات المبدعين وما يحملونه من إضاءات تزخر بالطرافة المدهشة التي تخطف المشهد في المعرفة بكافة أشكالها وصنوفها، وأن ما يملكونه مناخات مخضلّة، وأنها ليست محض مصادفة، أو فكرة قفزت ثم تنأى وتموت، فإننا نكون قد وسعنا وبشكل لافت الانعتاق من سلطة الحواس، ونجحنا أن نطلق الإبداع من إسار طقوسه المألوفة؛ ليزهر بنبتة تمتزج فيها هالة من اللحظات المجتمعية التنويرية.
وفي تلك اللحظات تبرز ملامحنا المتماسكة الناضجة، ونبدأ في إيقاظ مشاريع المبدعين النائمة أو المؤجلة في قائمة أحلامهم، ونصطف مع المبدعين في مضمارهم، ونفسح الطريق لجيل قادم لينحت اسمه عند نقطة الانطلاق، ويمهرها بخاتمه حين يكتمل السباق، ويحصد الوطن تجليات نادرة صَنع لها أوعية من الوضوح والجلاء لتكمل تفاصيل مستقبل عظيم ينتظرهم عندما يبارون أهدافاً، ويحققون صنائع، ويصفون دروب إبداعهم ويغلبون باحتراف وحذق في مسابقات الاقتراب من النهايات المبهرة.
بوح المبدعين، يقول أبو العلاء المعري:
ألا في سبيل ِالمجدِ ما أنا فاعلُ
عفافٌ وإقدامٌ وحـزمٌ ونـائلُ
كأني إذا طلتُ الزمانَ وأهله
رجعتُ وعندي للأنام طوائلُ
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانهُ
لآت ٍبما لم تسْتطعه الأوائلُ