اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
لا شك أن الوطن هو أغلى ما يمتلكه إنسان بعد إيمان صادق بالله وعقيدة راسخة لا تشوبها شائبة، فما بالك إن كان هذا الوطن آمناً مستقراً، أمتن الله عليه بخيرات وفيرة واختصه ببيته الحرام ومثوى نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وجعل أفئدة الناس تهوي إليه من كل حدب وصوب، إذ يتجه إليه نحو ملياري مسلم في العالم خمسة مرات في اليوم. وهيأ له سبحانه وتعالى بجانب هذا كله قيادة راشدة، تحكم بشرع الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، غايتها العدل بين الرعية وإصلاح شأنها والعمل على توفير كل سبل الراحة التي تكفل لها حياة كريمة، ورعاية كافة شئونها في الداخل والخارج، والاهتمام بشئون العرب والمسلمين والمساهمة قدر الإمكان في تحقيق الخير للبشر أجمعين.
ومن أراد أن يدرك عظمة النعمة التي نرفل فيها، في وطن الخير والأمن والسلام هذا، في ظل قيادة الإصلاح والفلاح، فليتأمل الأوطان حوله التي مزقتها الثورات والنعرات والاختلافات المذهبية والقبلية، والفساد الإداري والمالي والتكالب على السلطة والثروة، وأشعلت فيها فتيل حروب أهلية قضت على الأخضر واليابس، وحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، بعد انفراط عقد الأمن فيها، فأصبح الإنسان لا يخرج إلى العمل في الصباح إلا بعد أن يودع أسرته وداع مفارق قد لا يعود إلا أشلاءً، وهكذا الحال للطلاب والعمال وكل مواطن في تلك الدول التي تعددت فيها الولاءات شرقاً وغرباً، ولم يعد فيها ثمة ولاء للوطن، بل للأسف الشديد، صار الولاء للقبيلة والمنطقة والمذهب، مما ضاعف عدد الدول الفاشلة حولنا التي تهدد استقرار المنطقة وأمنها.
ولأهمية الأوطان والأمن والأمان في حياة الناس، فقد حث الإسلام على العناية بها، والإخلاص لها، والتفاني في خدمتها، وجعل حبها من الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حب الأوطان من الإيمان). فالوطن هو الكيان الكبير الذي يحتوي كل المواطنين، والدوحة الظليلة التي يتفيأ ظلالها الجميع، والأم الرؤوم التي تغدق عطفها وحنانها على كل أبنائها.
ومن هنا، كان حب الوطن والحرص على خدمته والاستعداد للدفاع عنه، من أقدس الواجبات، وكان أولئك الذين يضحون بوقتهم وراحتهم وصحتهم، بل وحياتهم كلها، أشرف المواطنين وأعزهم وأوفاهم لوطنهم. ولهذا كانت كل لحظة اسمع فيها باستشهاد أحد جنودنا البواسل من أفراد قواتنا النظامية بكافة تشكيلاتها، أغرب اللحظات في حياتي، فقد تشرفت بالعمل في القوات المسلحة سنين عدداً، وأدرك جيداً معنى التضحية والفداء، والذود عن كل ذرة من ثرى هذه البلاد الطاهرة المباركة، بل متعة الاضطلاع بمثل هذا الواجب النبيل، إذ تجتاحني في مثل تلك اللحظات، حالة نادرة من الفرح والحزن في آنٍ واحد.. الفرح لأن في وطننا جنوداً أشاوس وأبطالاً صناديد، عاهدوا ربهم ووطنهم وقيادتهم وشعبهم، على الموت دفاعاً عن هذا الثرى الطاهر الغالي، الذي يضم أقدس بقاع الأرض، فنالوا أعظم شرف، وخلدوا ذكرى عطرة يعتز بها أهلهم وذووهم، ويفاخر بها وطنهم، وتقدرها لهم قيادتهم. ويكرمهم بسببها ربهم، إن شاء سبحانه وتعالى يوم القيامة.
وقطعاً إن من يقدم أغلى ما يملك، فداءً لنا وحماية لوطننا ودفاعاً عن مقدساتنا، استحق منا الشكر والثناء والوفاء لتضحياته ورعاية أسرته. وصحيح أن الدولة -رعاها الله-، تضطلع بواجبها كما يعلم الجميع من اللحظة الأولى لاستشهاد جنودها البواسل، فتواسي ذويهم وتتكفل برعاية أسرتهم من الألف إلى الياء، بما في ذلك تأمين السكن والتعليم والإعاشة والرعاية الصحية والتوظيف وسداد الديون. لكن هذا لا يمنع أن يهب المجتمع من جانبه لتعزيز جهد الدولة في هذا الاتجاه، تكريماً لأولئك الشهداء الأبرار ودعماً معنوياً ومادياً لأسرهم وتحفيزاً لزملائهم.
ولهذا كلما صعد شهيد مدافعاً عن حياض هذا الوطن الغالي، كنت أكتب مناشداً رجال الأعمال والمال في بلادي للمسارعة في تأسيس (صندوق شهداء الواجب) يتبرع له كل منّا بما تجود به نفسه. واليوم سعدت أيما سعادة عندما طالعتنا الصحف الصادرة يوم الخميس 16 من من ربيع الآخر 1436هـ، الموافق الخامس من يناير 2015م، بخبر طالما أثلج صدر الجميع في سائر ربوع هذا الوطن المبارك الغالي، أما فرحة محدثكم وسعادته بالخبر، فتفوق الوصف والخيال، إذ كان الأمر أمنية غالية راودتني سنين عديدة، وأفصحت عنها في مقالات كثيرة عبر مختلف الصحف المحلية، على فترات متفاوتة، لاسيما كلما مضى منّا شهيد إلى ربه، وهو يدافع عن حمى هذا الوطن وعقيدة أهله ومقدساته ومكتسباته.
مفاد الخبر السعيد، توقيع اتفاقية بين وزارة الداخلية وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، يوم الأربعاء 15-4-1436هـ، الموافق 4-2-2015م، بشأن كفالة يتيم عن كل شهيد من شهداء الواجب، وحفر آبار سقيا داخل المملكة، صدقة جارية -إن شاء الله-، عن أرواح شهداء الواجب الطاهرة الزكية، تنفيذاً لتوجيه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود، ولي ولي العهد، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية، رئيس لجنة الشئون الأمنية والسياسية بمجلس الوزراء، استكمالاً لمجموعة من الأعمال الخيرية التي تتشرف وزارة الداخلية بتنفيذها فيما يتعلق بشهداء الواجب ورعاية أسرهم، بناءً على توجيهات سموه الكريم.
ولا أكتم القارىء الكريم سراً، فقد فاقت فرحتي بهذا الخبر الوصف والخيال حقاً، كما كان في الوقت نفسه، من أجمل المفاجآت السعيدة في حياتي، فطالما كان أمنية غالية عندي، ولهذا كانت حاضرة دائماً في كل مقالاتي تقريباً، آخرها ما جاء في مقال بعنوان (قبل فوات الآوان) نشر بجريدة الجزيرة، الثلاثاء 22-3-1436هـ، الموافق 13-1-2015م، العدد 15447، ص 17، إذ قلت بالحرف: (... وقبل الختام، أذكِّر رجال المال والأعمال في بلادنا الغالية، بما رددته مراراً، من ضرورة التنادي لتأسيس «صندوق شهداء الواجب» لنرفد به جهد الدولة رعاها الله، في مؤازة أسر الشهداء، ونؤسس به وقفاً ينال منه كل شهيد حظه.. فهؤلاء ضحوا بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية من أجلنا كلنا، أفلا يستحقون منّا عملاً بسيطاً كهذا، يكون وفاءً لهم وحفظاً لعهدهم وتشجيعاً لزملائهم لحمل الراية؟...).
أما وقد تحقق هذا بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل القيادة الرشيدة، ممثلة في شخص سمو ولي ولي العهد، شبل الأسد نايف النايف، -طيّب الله ثراه-، الذي مضى إلى ربه راضياً مرضاً إن شاء الله، بعد رحلة جهاد طويلة، نعمنا فيها برعاية الله وحفظه، ثم بعين نايف اليقظة الساهرة الواعية المدركة لأهمية الأمن الشامل في حياتنا.. أقول، أما وقد تحقق هذا، الحلم النبيل، فما أزال أكرر مناشدتي لرجال المال والأعمال في بلادي، بل لكل مواطن ومواطنة، لرفد جهد دولتنا المباركة الطيبة الوفية لمواطنيها، في هذا المجال، والمسارعة بالإعلان عن تأسيس «صندوق شهداء الواجب».. لكي تتسع دائرة العطاء، فنشيّد مدارس ومساجد ومستشفيات ونجهزها، لتكون صدقة جارية للشهداء الأبرار.
وأناشد هذه المرة معالى الأخ الدكتور إبراهيم بن عبدالعزيز العساف، وزير المالية، تخصيص رقم حساب موحد في سائر البنوك لهذا الغرض. فالسعوديون مشهود لهم على مستوى العالم، ألا أحد ينافسهم في مثل هذه الحالات الإنسانية، وقد أدهشوا العالم مراراً من أجل مساعدة الآخرين.. فهذا هو أقل شيء نستطيع فعله، نحن المواطنين إلى جانب جهد دولتنا، تجاه أبنائنا الأشاوس الأوفياء المخلصين، الذين واجهوا الموت بفرح وفخر واعتزاز، من أجل حماية وطننا وعقيدتنا ومقدساتنا ومنجزاتنا وأعراضنا.
كما أناشد أيضاً معالي الأخ الدكتور، عزام بن محمد الدخيل، وزير التعليم، تأسيس (جامعة شهداء الواجب) يكون مقرها مدية الرياض، ثم تؤسس لها فرع لاحقاً في حاضرة كل منطقة من مناطق بلادنا.
وبالطبع، لا يفوتني هنا أيضاً أن أشيد بتوصية اللجنة العامة لمجلس الوزراء، بمعاملة كل متوفى من الممارسين الصحيين، من السعوديين وغيرهم، العاملين في القطاع الصحي الحكومي أو الخاص، مدنياً كان أم عسكرياً، بسبب فيروس كورونا، معاملة شهيد الواجب، وصرف منحة قدرها نصف مليون ريال لذويه، حسبما جاء في الصفحة الأولى من جريدة الوطن، السبت 18-4-1436هـ، الموافق7-2-2015م، العدد 5244. مما يؤكد تقدير الدولة للتضحيات وحرصها على الاضطلاع بدورها الريادي في رعاية أبنائها ومكافأتهم على حسن صنيعهم، مع أن هذا واجب تمليه مسؤولية العمل.
وبعد:
إني على يقين هذه المرة، إن شاء الله، أن ترقبنا لمثل هذا العمل المبارك لن يطول، لاسيما بعد أن بادرت الدولة كعادتها دائماً، وحرصها على رعاية أبنائها. سائلاً الله العلي القدير، أن يوفق دولتنا بقيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده الأمين، صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود، وولي ولي العهد وزير الداخلية، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالعزيز آل سعود، -حفظهم الله ورعاهم-، لكل خير وعزة ومنعة. وإني على يقين إن شاء الله، أن هذا البلد سوف يظل إلى الأبد أبيّاً كريماً عزيزاً وعصيّاً على كل من يفكر حتى مجرد تفكير في زعزعة وحدته، أو النيل من استقلاله، فدونه أسود لا تهاب الردى، وسيبقى هذا البلد الأمين إن شاء الله دوماً، يد خير وسلام ومحبة وأمن وأمان، كما أراد له مؤسسه الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، طيّب الله، ثراه أن يكون.