عبدالعزيز السماري
لم تعد خلافات المسلمين حول فهم الإسلام أسيرة للكتب أو رهينة في أخبار المحدثين والفقهاء، فقد أخرجت وسائل الإعلام الحديث الفتنة في قراءات الإسلام المتعددة من مراقدها القديمة، بعد أن أصبح من السهل تداول مقطع حز للرؤوس أو لقطة حرق لإنسان بين الملايين خلال ساعات، وأصبح من السهولة أن ينتشر برنامج يستعرض فتاوي وآراء علماء معاصرين ومتطرفين، يقدمون فيه قراءة دموية للدين بين الناس.
ويبررون شرعياً قطع الرؤوس وإحراق الأجساد وقتل الأسرى، ويستعرضون خلاله أدلة ونصوص وروايات تاريخية كدلالة قطعية على أن ذلك هو التطبيق الصحيح لدين الإسلام، وقد كان منها على سبيل المثال جواز قتل المرتد وأكل لحمه، وجاء ذلك في قول منسوب للشافعي (يأكل لحم ابن آدم ولا يجوز له أن يقتل ذميا، لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرًا لأنه مال الغير، فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه).
كما شاهدنا وسمعنا علماء معاصرين، كانوا يقدمون في السابق دعوة وسطية للدين، لكنني تفاجأت بالمتغير في مواقفهم، عندما سمعتهم وشاهدتهم يروجون لدعوة أن الإسلام دين الذبح، من خلال ترديد حديث لم أعلم مدى صحته ((لقد جئتكم بالذبح)، وعلى الاحتكام إلى دعوة القتال المستمر مع غير المسلمين لحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى).
ويظهر في المقابل جماعات أخرى تطالب بتحكيم الوسطية في الإسلام، وهي دعوة للوقوف في منطقة وسطى بين دعاة القتال والذبح للمخالفين والكفار، وبين دعوة دين الرحمة الذي وصلت أعلى مراتبه إلى مرحلة الرفق بالحيوان، «عذبت امرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض!»، وتأتي دعوة المرجئة في النقيض من الطرف الآخر، وفي اتجاه معاكس لدعاة الذبح وحز الرؤوس، والتي تدعو إلى عدم تكفير أي إنسان، أيا كان، ما دام قد اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين، مهما ارتكب من المعاصي، تاركين الفصل في أمره إلى الله تعالى وحده.
ومن خلال نظرة للتاريخ الإسلامي منذ عصر الفتنة، والتي كانت على وجه تحديد الفتنة الأولى في قراءة الإسلام، وكانت بمثابة الباب التي دخلت منها السياسة لتحرك تلك القراءات كيفما شاءت، وحسب الطلب، ولهذا يمر عمر الدولة في تاريخ الأوائل من المسلمين في مراحل ثلاث، تبدأ عادة بالقراءة الدموية للإسلام، وبعد التمكن من السلطة، تبدأ مرحلة الانتقال إلى دعوة الوسطية، وتحكيم العقل والمصالح فيما يختلف فيه المسلمون، ولاحقاً في مراحل تكوين الثروات والغنائم، تبدأ المرحلة الثالثة، والتي تطالب بالكف عن التكفير وترك الأمر لعلماء الدولة..
بسبب المغالاة في الانفراد بالمجد والثروة، تبدأ عادة على أطراف المجتمع دعوات لإعادة القراءة الدموية للإسلام، ولإحراج السلطة الحالية يعيدون الحياة المقولات القديمة لوجوب القتال والذبح من أجل إعادة الهيبة لدولة الإسلام، وإثارة الرعب في قلوب العامة والمخالفين من الطوائف الأخرى، وعادة ما تسبب تلك الدعوات القلاقل والفتن بسبب خطابها المستند إلى الأدلة الشرعية، والتي تم استخدامها في مراحل سابقة.
تقف السياسة ومصالحها وصراعاتها خلف تلك القراءات المتعددة للدين، والتي تتغير مواقفها حسب المصالح من قراءة لأخرى، ولعل السبب في ذلك غياب رؤية سياسة موحدة للمصالح والمنافع، وتستفيد من خبرات الأمم، وبسبب الإصرار على إقحام الدين الإسلامي في صراعات السياسة، لم تتوقف الكوارث عند المسلمين منذ اجتياح بغداد على يد المغول إلى خرابها الأخير..
في حين تدخل السياسة وشؤونها في باب «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»، وهي حقيقة لم يصل إليها كثير من المسلمين، وخصوصاً العرب منهم، في حين استطاع المسلمون الأتراك والماليزيون والإندونيسيون الخروج مبكراً من تلك الدائرة، والبدء في تحكيم أنظمة إدارية متطورة، لا تختلف مع مقاصد الدين الحنيف، لكن تلتزم بتشريعات تمنع استخدام العنف في ميادين السياسة، وتنظمها من خلال آليات المجتمع المدني. والله على ما أقول شهيد.