د. عبدالرحمن الشلاش
هناك خلط كبير لدى عامة الناس بين الإنسان المتدين المقترب إلى حد كبير من درجة المثالية الإنسانية، وبين الإنسان المتدين قولاً دون أن يظهر من أفعاله ما يدل على أنه يطبق ما يندب الناس إليه. لدينا نموذجان للشيخ الزاهد والواعظ الفضائي المتمشيخ.
عرفنا كثيراً من مشايخنا الأوائل يرحمهم الله متمسكين بالقيم العليا التي يحث عليها الدين، ولا يعدم زمننا الحالي من مثل هذه النماذج الفريدة. تجدهم دائما ينأون بأنفسهم عن مواقع الشبهات ويتورعون عن الانغماس في مباهج الحياة ليس لأنها محرمة ولكن لأنهم فقط يبتعدون عن أي موطن فيه نسبة ضئيلة من الشك والريبة، وهم في سلوكياتهم مع الناس يتذرعون بالصبر ويتحملون عجلة البعض وتهور المتسرعين. يحتسبون وقتهم وجهدهم لله دون أن يطلبوا مقابل ما يقدمون، بل إن منهم من يبذل من ماله القليل ويسعى على الأرامل والأيتام، وفوق هذا يظل أياما دون أن يكون لديه ما يكفي نفسه وأهل داره. بل إنه يعيش حياته زاهداً مقتنعاً بما رزقه الله لا يقف على باب أحد من الأغنياء كي يتسول، ولا يزعج المسئولين بكثرة شفاعاته. مع كل هذا يقدم كل الخير لمجتمعه بعيدا عن الفلاشات والأضواء. يقضي أوقاتا طويلة من يومه في مسجده أو معهده أو مدرسته يعلم الناس أصول دينهم وعقيدتهم ويجيب على أسئلتهم، ويقضي حاجات المعسرين دون أن يعلم أي من الناس بما يقدم ويبذل لأنه احتسب الأجر من الله لا من الخلق. في الوقت الذي لا يبخل فيه بشيء على الناس تجده يعيش حياته متقشفا زاهدا ورعا عابدا صائما قائما. يكف لسانه عن أعراض الناس ولا يخوض فيما لا يعنيه. أحدهم كان إذا استلم مرتبه أعاد للمحاسب مبلغا منه مقابل ما تغيب من أيام الشهر. شيخ آخر اعتاد حين يخرج للمسجد أن يأخذ معه من بقايا الطعام ليقدمه لقطط كانت تنتظره يوميا عند الباب لحظة خروجه، وفي يوم من الأيام لم يجد في المنزل شيئاً فخرج مع باب آخر حياء من تلك القطط. تلك السير العطرة لشيوخنا الراحلين لا تتسع المساحة لسردها لذلك أحبهم الناس ورفعوهم ليكونوا فوق مستوى النقد.
اليوم لا تخلو الساحة من مثل هذه النماذج الفريدة، لكن في المقابل ظهر وعاظ وجدوا أمامهم مجالات رحبة فركبوا الموجة واستغلوا عاطفة الناس الدينية ليحققوا ما يريدون من مكتسبات دنيوية. تواجدوا في مواقع التواصل وفي القنوات الفضائية. لم يسيروا على خطى سلفهم الصالح في الزهد والورع والاحتساب بل انشغلوا بالأضواء وتجميع الأتباع والسيطرة على المشهد قدر الإمكان وانغمسوا في الملذات وظهروا يكسوهم البريق ببشوتهم المقصبة وعطورهم الباريسية، لدى كل واحد منهم سكرتير خاص ينظم له قوائم المواعيد الطويلة ويرد على الاستفسارات ويتفاوض مع الزبائن ويوقع العقود. في هذا السلوك دون شك انحراف عن منهج الدعوة المبني أساسا على القدوة الحسنة في شخصية الداعية.
المشكلة أن هناك من الناس من لا يزال مخدوعا ويرى أن هؤلاء فوق مستوى النقد بينما الواقع يقول بأنهم قد وضعوا أنفسهم تحت طائلة النقد حين ارتضوا ممارسة سلوكيات ليست من سمات المشايخ ولا الدعاة ولا حتى الوعاظ الأسلاف.