إبراهيم عبدالله العمار
ليس ألكسندر رجلاً مهملاً ولكن هذه هي الصورة التي تركها بدون قصد، وداعبه أصدقاؤه في هذا كثيراً. لما كان يعمل في معمله كان إذا انتهى يومه وذهب لبيته ترك وراءه أطباقه التي يصنع فيها تجاربه العلمية، وتركيزه كان على البكتيريا ومستعمراتها، فيزرعها ويحفزها ويدرس أفعالها وتأثيراتها، ولذا فإن ما رآه الناس إهمالاً كان حرصاً من ألكسندر أن لا يرمي أي طبق من أطباق مستعمرات البكتيريا إلا بعد أن يتأكد تماماً أنه درس البكتيريا بشكلٍ شامل ودقيق حتى لم يبقَ فيها أي شيء يمكن أن يستفاد منه، ولهذا لم يكن غريباً مرأى العالم ألكسندر في صيف عام 1928م لما ترك معمله وذهب لإجازة مخلّفاً وراءه أطباقاً كثيرة لم ينظفها أو يرتبها، ولما رجع عاين أطباقه مرة أخيرة قبل أن يرميها، ولكنه أثناءها لاحظ شيئاً غريباً لم يره من قبل.
ماذا لاحظ ألكسندر نوع من الفطريات في أحد تلك الأطباق قضى على المستعمرة البكتيرية الموجودة فيها. تأمَّلَ هذا قليلاً ثم غمغم: هذا غريب! كان الفطر من النوع الذي ينمو على الخبز واسمه بنسليوم، فدوَّنَ ألكسندر ملاحظاته في ورقة علمية ومن ثم وضعها جانباً ولم يعد لها مرة أخرى. لما التهبت نار الحرب العالمية الثانية وتعاظمت أعداد القتلى والجرحى بحث العلماء عن وسيلة لتعقيم الجروح ضد العدوى والتلوث وهي أكبر قاتل، وجربوا هذا وذاك ولم يعثروا على بغيتهم، حتى وقعوا ذات مرة على تلك الورقة العلمية التي كتبها ألكسندر وأثار اهتمامهم فِعل الفطر بالبكتيريا، ولما صنعوا تجارب عملية أثار دهشتهم قوة تلك المادة في مكافحة البكتيريا، ومع المزيد من التجارب والتطبيق توصلوا إلى أحد أهم الاختراعات الطبية في القرن الماضي: البنسيلين، المضاد الحيوي المكافح للبكتيريا التي تسبب العدوى القاتلة، وبدأت المصانع تتسابق في تصنيع هذا الدواء الباهر المنافع وإرساله إلى جبهات القتال.
ها نحن بعد عشرات السنين من ذلك الاختراع ولا زال البنسيلين أكثر المضادات الحيوية استعمالاً في العالم، وهذا الاسم يشمل نوعية من المضادات وليس في حد ذاته اسماً متفرداً، فالمضادات الحيوية التي تنتهي أسماؤها التجارية بكلمة «سيلين» عادة تنتمي لعائلة البنسيلين. اختراع رائع.. لكن يظل المرء يَعجَب من دور الحظ والصدفة في الاكتشافات والاختراعات العلمية.