أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
في يوم الجمعة ليلة السبت الموافق 7 -6-1436 هـ بمشيئة الله سَيُحَاضِرُ في أسبوعيَّتي الدكتور الطبيب فهد الخُضَيري عن موضوع المُعَجَّنات وَأَثَرِها على الصحة كالبُرِّ بسُنْبُلَتِهِ إذا نُزِعَ منه قِشْرُه، (ويسمى في مجموعِه تِبْناً):
ذهبتْ فائدته، وبقي ضَرَره.. ومِن إذاعةِ الرياض يُلْقي أحدُ الدكاترة الفضلاء برنامجاً مشحوناً بالفكر والعلم والثقافةِ، ولقد رجوْتُ من ذلك الدكتور الفاضِلُ [غيرَ مأمور]: أن يحضر لاسْتِمَاعِ محاضرةَ أخيه الخضيري لا غير، وغرضي في هذا الاشتراط أنْ أفرح به هو محاضراً في أسبوعيتي بمنزلي في نهاية الأسبوع الثاني الموافق 21-6-1436؛ لِيَجْمَعَ إن شاء الله بين المنافع الدينيَّة والدنيوية في أمْرَيَنِ مُهَمِّين.
الأمرُ الأوَّلُ: التَّفْريقُ بين الْعِلَّةِ التي ينكرها فقهاءُ الأَخْذُ بالظاهرِ رحمهم الله تعالى، وبين السببِ أو الباعِثِ الذي يُنْتِجُ مَصْلَحةً دُنْيَوِية رحمةً مِن الله تعالى امْتَنَّ بها على عباده (له المنة والفضْلُ وحدَه)؛ مِنْ أجْلِ طاعتِهم شرْعَ ربِّهم.
والأَمْرُ الثاني: تِبْيانُ أنَّهُ يَحْرُمُ أداءُ الصَّلاةِ فرائضَ ونوافِلَ مِنْ أَْجْلِ تحقيق منفعةٍ دُنْيَوِية، وأنَّ الصلاةَ مردودَةٌ غيرُ مَقْبولة؛ بل هيَ باقية في الذِّمةِ، ويطالِبُ بها ربَّنا (جلَّ جلالُهُ، وتقَّدسَتْ أسماؤهْ) عَبْدَهُ المُكلَّفَ وهو غيْرُ قادر على الأداء؛ لأن يوم القيامة ليس دارَ تكليفٍ ، فكلٌّ سيؤمن، ولا ينفعه إيمانه كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (158) سورة الأنعام، والمُكَلَّفُ غيرُ قادِرٍ على افتدائِهِ نَفْسَهُ من عذاب الله كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} سورة المائدة (35 - 37). وقد ذكرتُ لفضيلة الدكتور ذي البرنامج الإذاعي: أنَّ صديقاً لي من قبيلةِ عَنَزَة كنتُ وإياه مُرَافقين للأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى في جلوسه وأسْفاره خلال اثْنَينِ وعشرين عاماً، وقدْ تَرْجَمَ لِسُمُوِّهِ تقريراً طِبِيّْاً من طبيب ألماني ذَكَرَ فيه فوائدَ إطالةِ السجودِ، ومنها تَسَرُّبُ سمومِ الأكلِ، واتِّزَانُ ضَغْطِ الدَّمِ، وصفاءُ السَّمْعِ مِمَّا يُكَدِّر على السَّمْعِ نفسِه، ويُذْهِب آلام العُضوِ الذي ركَّب الله فيه السَّمْع، ويضبِط توازُنَ الْمَشْيِيِ الذي يُخِلُّ به آلامُ الأُذُنِ الوسطى في فِقْرتين أسْفلَ الظَّهْرِ هما ما بين الفِقرة الرابعة والخامِسةِ، وإنَّنِيْ (خبراً لا شَكْوَى) مُصَابٌ بهذا الداءِ إثْرَ سقوطِي على ظهْري في حُفْرَةٍ مرتفعة المستوى جِدّْاً بين حجارةٍ، وأصياخٍ حَدِيديَّةٍ، وبرامِيلَ مُضَلَّعَةٍ، وزيوتٍ وعُلبٍ يَضُخُّها مواصيرُ (بَيْبَاتٌ) مَطْبخِ الأمير ناي، والوقوعُ بذلك الوصفِ: محققُّ المَوْتَ أو التَّشَوُّهِ؛ ولقد وقاني الله شَرَّ ذلك الداءِ؛ فله الحمد في الأولى والآخرة.. ثم أَعْقَبَ ذلك إصابتي بعد أسبوعين بِحُمَّى الخنازير.. إلا أنَّ الله سبحانه رحمني بقدرته وفضْلِه، ثم ببركة دعاءِ الربِّ الكريمِ، والتَّضَرُّع إليه بالدعاء والإنابة.. ومِنْ ضِمْنِ أدعيتي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد جعَلْتَ يا رَبيّْ مُصِيْبَتِي على قَدْرِ تَحَمُّلِيْ، ولمْ تَفتِنِّي في مُصِيْبَتِي؛ فَأَلهْمتَنِي الصَّبْرَ والرضا والطُّمَأنينةَ، وشُكْركَ على كلِّ حال؛ فأنتَ المحمودُ على كلِّ حال؛ لأن كلمة (الحمد لله) جامِعَةٌ مَدْحَك على ما تفرَّدتَ به من الكمالِ المُطْلق، والتَّنزُّهِ الْمُطلَقُ عن كل نقصٍ وعيب؛ فلك التَّفرُّدُ بالوحدانية في كلِّ ذلك بدلالةِ ضروراتِ العقلِ من قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ وهذا أيضاً هو توحيد الكمالِ مِن ضرورة العقلِ في مثل قولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء؛ وهو نفسُه توحيدُ العبادَةِ التي هي أوَّلُ ما يطْلُبُهُ الربُّ سبحانه وتعالى مِن عباده المُكَلَّفُين، وهي ثَمَرةُ ما عَلِمَهُ المُكَلَّفُ من شرع ربه بضرورة العقل.. وَمِنْ ثَمَراتِ الإيمانِ بأنَّ (الحمدُ لله) برهانُ الكَمالِ والقَصْدِ، ووحدانِيَّةِ الله في التدبير، والعلمِ والحِكْمَةِ والقصدِ والإرادةِ والهَيْمَنَةِ والإحاطةِ والمَشِيْئَةِ؛ فلا إرادةَ ولا مشيئة إلا بعد مشيئَةِ وإرادتِه، ويجعلُ الله الرِّجسَ على الذين لا يعقلون.. وفي آيات كثيرة ورد النَّصُّ بِمِثلِ قولِه سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (30) سورة الإنسان، ثم وَحْدَانِيَّتُهُ سبحانه وتعالى في تحقيق مصالح العبادِ والبلادِ.. وعَكْسُ ذلك ظهورُ الفسادِ في العباد والبلاد والأحْياء من الحيوانات والطيور والحشرات.. إلخ، ومن أَحْياءِ الجماد من مُخْتلِفِ الثَّمراتِ التي هي مصلحةٌ لكلِّ المخلوقاتِ العاقِلةِ التي أعطاها ربُّها خَلْقَها ثم هدَى.. ووحدانيَّةُ الله في التدبير والعلم والحكمة.. إلخ الْمُحَقِّقَةُ صلاحَ العبادِ والبلادِ، وهي أيضاً محقِّقَةٌ أنَّ عبادةَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى التي هيَوَّلُ ما يطلب الرَّبُّ الكريم الرؤوف بالعبادِ مِن عَبْدِهِ الْمُكَلَّفِ سواءٌ أَصَلُحتْ أخلاقُ العبادِ أم فَسَدَتْ، ولكنَّ الله ضامِنٌ صلاحَها بامتثالِها شرعَ ربِّها (ولقد توسَّعْت في هذا ببحث عن البرهان الأونطولوجي نشر في هذه الجريدة منذ سنواتٍ كثيرةٍ).. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (41) سورة الروم. ومِن كلِّ هذا يكونُ المْنطَلقُ إلى التوسُّعُ في الكلام عن آثارِ بركةِ امْتثالِ الشرعِ المعصومِ، وتحقيقِها صلاحَ وإصلاح العباد والبلاد.. ثم تكون الإفاضة بتَدَفُّقٍ عن ثمارِ الدعاء المُباركة، ولا سيما في ثلاثِ آياتٍ أَمَرتْ أمْرَ إِيْـجاب؛ وهي إيجابُ الدُّعاءِ على المُكَلَّفِين إيجابَ عمومٍ على الْفَوْرِ بلا مُهْلَةٍ؛ وهي آياتٌ واعِدةً بإيجابِ المْدْعُوِّ سبحانه وتعالى على نفسه مَطْلوبَ الْعَبدِ المُكَلَّفِ إلا ما قامَتْ ضرورةُ العقلِ من مفهوم النَّصِّ الشرعي على أنَّ الربَّ سبحانه وتعالى قد لا يُحقِّقُ المَطلُوبَ نفسَه، ولكنه يحجبه ويحقِّق لِعَبْدِه خيراً منه؛ بأن يدفَع عنه شرّْاً هو خيرٌ له مِمَّا حَجَبهُ، وَيَمْنَحَهُ الطُّمأنينةَ والرضا والصبر والشكر لله على كل حالٍ؛ فلا يَسْخَطُ ولا يَيْأَس.. وأَخْبَرْتُ ذلك الدكتورَ الفاضل بِمُصِيبةٍ أصابتني؛ فتقاصَرَتْ بالله ثم بها هِمَّتي؛ فلم أَعُدْ قادِراً على المحاضرات، ولا على المداخلات مع الإخْوَةِ الذين أَحْضُرُ محاضراتهم.. وقد أقنعني الأطباء في المستشفى العسكري أنَّ ما أصابني لا علاقةَ له بالزهايمر؛ وإنما هو من آثار كِبَرِ السن؛ إذْ عُمْرِي الآن 79 عاماً، ومن آثار سقوطي في الحُفْرَة، ثم حُمَّى الأنفلونزا؛ فكل هذه أقدارٌ ليْسَتْ سهلة.. وذكرت له مثالاً لهذا النسيان؛ وهو أنني خَرَجْتُ من بيتي لأداء صلاة الفجر، وكان الحمامُ واليمام يَبِتْنَ في حُجُورِ النخل العالية (والواحدة منهنَّ (عيدانة)؛ وذلك بالدال المهملة عند العوامِّ، وهي (العيداته) بالتاء المُثنَّاة عند الفصحاء؛ فسَمَعْتُ ضجيج اليمام والحمام يُرَجَّعْنَ ما سَخَّرهُنَّ الربُّ الكريم لأدائه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَاَفْعَلُونَ} (41) سورة النور، وَهُنَّ مُتَهَيِّآتٍ للطيران؛ لِيَغْدِينَ خماصاً، وَيَؤُبْنَ بطاناً.. وإنْ مِن شيئٍ إلا يسبِّح بحمد ربنا ولكن لا تفقهون تسبيحهم، وفي النص الشرعي الصحيح الصريح بيانُ ما يقوله المُكلَّف إذا سمع صوت (الديك)، ولكنَّ لساني محبوسٌ عن مُجاوبتهنَّ مع أن والدي رحمه الله تعالى ظلَّ يُلَقِّنني الأدعية المُوظَّفة التي ُتقال في الأزمنة والأمكنة والأحوال ولَمّْا أبلغ الحُلُمَ كقولك إذا سمعتَ نهيق الحمار ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فاستعضْتُ عَمَّا أُنْسِيتُه بترديد التسبيح معهنَّ، فكنت أقول: ((سبحان مَن سَبَّحتْ هذه الأطيار بحمده)).. والجوابُ سَهْل يُسْتبعد أن ينساه أحد، وبعد شهرين كاملين تذكَّرت أن جوابهن: ((أسأل الله من فضله))؛ فهل ينسى هذا الجواب أحد!!.. وفي محاضرة الدكتور الخضيري في الأسبوع الماضي 10-6-1436 طلبوا مِنِّي التعليق فأردت أنْ أعتذر بما يعتريني مِن نسيان، وأنْ أذْكُرَ ما يقولهُ مَن سمع صوت الديك،؛ فإذا بلساني محبوسٌ غيرُ متذكرٍ تلك الجملة السهلة؛ ذلك أنني ذات يوم خرجت من بيتي لأداء صلاة الفجر؛ وقد كان اليمامُ كثُر في فُلَّتي الكبيرة، فلا تطير مهما مَرَّ بها مَنْ يمرُّ من ذريتي وأهلي وحفدتي؛ وإنما تطيرُ إذا رأت القِطَّ؛ فإذا بي أنسى ما يقال، وهو (أسأل الله من فضله)؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فهل أَظَلُّ على نسياني شهرين آخرين ؟!.. لهذا لا أحضر المُحاضرات إلا أن يكون مَعِي مَنْ يفْتحُّ عليَّ إذا أَرَدْتُ المداخلة. والنسيان عندي يزداد ويطول، وربما بقيت ربع ساعة أو أكثر في صلاتي أتذكَّر سورةً حفظتها كحفظي سورة الفاتحة، وإذا صَلَّيتُ في بيتي لضرورة صِحِّية، أو نافلةِ؛ (لأن ذلك أفضل): فإنني أسجد للسهو في أكثر صلواتي.. وكذلك تقطيعُ سبعة فصوص من الثوم قِطَعاً صغيرة، وكذلك تناوُلُ الأرْزِ المصري النباتي بعد صلاة الفجر مطبوخاً بالماء من غير أخْلاطٍ كالسكر أو الدُّهْنِ، وكذلك شُرْبُ ماء زمزم بعد صلاة الفجر مباشرة أو قبل الصلاة بنصف ساعة، وكذلك تناوُلُ الْعِنَبِ - أيِّ عنبٍ -، والصيام عليه أربعين يوماً، وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في كتابه (سلسلة الأحاديث الصحيحة) أنه صام عليه أربعين يوماً لا يَطْعَمُ معه شيئاً، فذهبت عنه سمومُ الأكل؛ فسبحان الواحد تَقَدَّسَتْ أسماؤه الذي اِخْتَصَّ بعض عباده بما يشاء مع أنَّ هذا الصيامَمُسْتَبْعَدٌ تَحَمُّلُهُ، وهكذا تناولُ سبعِ تمرات من عجوةٍ سواء أكانتْ من عجوة العوالي بالمدينة المنوَّرة، أو عجوةً نبتتْ في أيِّ مكانٍ آخر، وكذلك الْمُجرَّبات كقراءةِ آية الكرسي ثلاث مَرَّات، وسورة الإخلاص ثلاث مرات، وسورة الفلق ثلاث مرات، وسورة الناس ثلاث مَرَّات؛ وذلك هو تَجْربَةُ وهب بن مُنَبِّه ، وكذلك النفث على الجسم ما ارتفع وما سَفُلَ إلا العورة سواءٌ أكان النفثُ متوالياً أو دَفْعَةَ واحدة، وسواءٌ أخَرَجَ مع النَّفْثِ بللٌ من الريق أم كان مُـجَرَّدَ الهواء الذي يخرج مع النفث؛ فهذا فِعْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قُدْوَةُ المؤمنين ما لم يقم دليلٌ على خصوصيتهِ كَخُصُوْصِيَّته في زواجه تسعاً من الزوجات ، وكخُصُوصِيَّتِهِ في صومِ الوِصال.. ومن بركات الدعاء عندما سقطتُ في الحُفْرة العميقة: أنَّ نَفَسِي احتبس فَلَمْ أستطع التنفُس بما أقدِّرُهُ بخمس دقائق، ثم تنفَّستُ مِلءَ رئتي لَمَّا جلستُ، وتفتَّحت عينايَ على ما أنا فيه مِن أخطارٍ محدقة؛ فرفعت كفَّيَّ إلى السماء، وحمدت الله وشكرته وسبَّحْتُه، ثم قلت: ((إنك يا ربي حَرَّمت وَجْهَ مَنْ دَمَعتْ عيناه من خشية الله، ولقد بكيتُ بنشيج عجزتُ عن وَأْدَهُ مراراً كثيرةً ولا سيما في الأسفار مع نزول المطر؛ فهاتان الحالتان مُـحَقَّقٌ فيهما قبولُ الدعاء إذا لم يتغَذَّ بالحرام كما في خبر الشرع الصحيح الصريح، وأنت يا ربي أعلم بذلك، وأنت أعلم بما انطوتْ عليه جوانحي، وقد حذَّرتَ عبادك بأنك تعلم ما في صدورهم.. سبحانك لا يخفى عليك شيئ لا في الأرض ولا في السماء؛ لأنك علَّامُ الغيوب.. تسمع دبيب النملةِ السوداء في الليلة السوداء الحالِكة، وتبصر مُخَّ ساقيها ومجاري عروقها.. وكفى بوحدانِيَّته في العلم عُمُوم قوله تعالى في أكثرَ مِن آية {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29) سورة البقرة.. ويكفي التفصيلُ في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (59) سورة الأنعام؛ فقَبَّح اللهُ مَنْ قال من الجهمية والمعتزلة: ((إن الله مُقَدَّسٌ عن العلمِ بالجزئيات؛ لأن قيامَه بكونه الواسع الذي لا يبْلُغه وهمٌ أجلُّ: من أنْ يعلم الجزئيات التافة من سلوك الإنسان أو من حديثه نفسَه.
قال أبو عبدالرحمن: ما أرى أنه ينطبق على هذا الضلال إلا الزَّعْمَّ بأنَّ زيداً من الناس تناولَ في الثانية من الدقيقة من الساعة الفُلانية، من اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من العام الفلاني من القرن الفلاني ماء بارداً؛ فهو سبحانه وتعالى أَجَلُّ من أن يعلم هذه الجزئية!!.. أرادوا تقديس الرب سبحانه وتعالى فتنقَّصُوه، ولا حجة لهم من شرع ولا من عقلٍ؛ بل كلُّ شيئ عنده بمقدار، ويعلم ما لم يكنْ لو كان كيف يكون.. ووالله ما كَلَّفهم ربهم هذا التشدُّق والتعمق، ولقد تناولتُ هذه المسائل بهذه الجريدة بتوسُّعٍ.. وتعلم يا ربي أنني ما أحببتُ أحداً إلا مِن أجلك وإن كنتُ أحْقِر نفسي أنْ لم أكنْ مِثْله:
أحِبُّ الصّالحينَ ولَسْتُ مِنهم
لعلِّي أنْ أنالَ بهم شَفَاعهْ
قال أبو عبدالرحمن: هذا حُبِّ الشفقة كحبِّ الوالدين الكبيرين، وحبِّ الضعفاء والفقراء، وحبِّ الأطفال لضعفهم وفي ذلك أجر كبير.. وهو غير حُبُّ الزوجة رحمةً ومودَّة وفي ذلك أيضاً أجر كبير، وغير مَحَبَّةِ الجمال، وحبِّ الشهوة (البائيَّة)؛ فذلك جِبِلَّةٌ؛ فإن كان ذلك حُبّْاً للجمال فذلك له أجر مضاعف؛ لأنه اعتصم بالله ثمَّ به عن ارتكاب المُحَرَّمات، وغيرُ حُبِّ الطفل لجمال لُثْغتِه، أو لطافة حركاته؛ فذلك ليس عبادة ولا شركاً؛ وإنما هو عادةٌ؛ فإن أراد التَّقَوِّيى بذلك على فعل الخير فذلك دافعُ خير؛ فأجره داخل في أجر إرادة الَّتقوِّي، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.