د. محمد عبدالله العوين
نحن نتغير إلى الأفضل بهدوء وبدون ضجيج سنة إثر سنة؛ ولا ثمة ردود فعل معارضة عنيفة سوى فرقعات هوائية صوتية لم تستطع أن توقف مد تدفق الحياة الزاخر؛ لكنها تدل على أننا نتغير!
نحن أسرى العادة السيئة والحسنة؛ أما الحسنة فما أجمله من أسر وما ألذه من استعباد؛ لكن المشكل الأكبر في ضعفنا أمام ما نعلم في أعماق نفوسنا أنه من قبل الموروث من التقاليد الاجتماعية التي تتلبس برداء ديني وما هي بذلك!
نحن نقف بتحد وبصلابة أمام من يريد زحزحتنا عن «العادة» الاجتماعية؛ ورثنا الصوت الواحد الذي لا يسمح لصوت آخر أن يحاوره أو يقاطعه أو يعترض عليه، وآلينا على أنفسنا أن نذب عما نعتقد أنه صواب مهما كلفنا ذلك من تبعات دون أن نصغي قليلاً لوجهة النظر الأخرى التي قد تكون محقة، وورثنا ألا نسمح لأحد كائناً من كان بأن يقول لنا: لا! أو يهمس حتى همساً بأن له الحق بأن يتساءل أو أن يعلن أن لديه موقفاً مختلفاً!
هكذا كنا ولا زلنا؛ بل هكذا كان غيرنا أيضاً في كل الأوطان والأقطار في الدنيا كلها، فليس أسر العادة خاصية سعودية ولا عربية ولا إسلامية؛ بل بشرية إنسانية، وهذا التاريخ يكتب في سجلاته كيف قاومت شعوب أوروبا طلائع التغيير العلمي الأولى؛ فأحرق الفرنسيون «أزهار الشر» لبودلير، وطاردوا مفكرين وأدباء، ومنعوا نشر كتب من آمن بحقائق العلم ورفض خزعبلات وشعوذات الكنائس في القرون الوسطى.
حدث ذلك كله في أوروبا بسحر الاستسلام للعادة؛ ونحن لدينا من وضوح المنهج وسلامة المعتقد ونقاء العقيدة ما يحمينا - ولله الحمد - من أن نقع أسرى لما يخالف قيم الدين التي يجليها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ لكن أسر العادة يكمن في الاستسلام للملتبس أو للمتلبس، أي لتلك العادات المتسربلة بأردية دينية وهي ليست كذلك؛ كما كان الأمر في تاريخنا القريب حين سجلت فئات من مجتمعنا مواقف رافضة لمستجدات طارئة لم تألفها من قبل؛ كتعليم البنات أو عمل المرأة في مهن تناسبها، أو التلغراف والبرقية، أو اللباس العسكري، أو ركوب السيكل، أو الرياضة ضمن مناهج التعليم، أو الاختلاط بالأجانب، أو الابتعاث، أو الراديو، أو التلفزيون، أو الدش، أو كاميرا الجوال، وغيرها!
ومن ذلك أيضاً تطور تنظيم معرض الكتاب، فقد تطورت مفهومات الرقابة وأساليب تنظيم دخول النساء والرجال، وكان تعدد اتجاهات الكتب في المعارض الأولى القديمة قبل 1420هـ محدوداً للغاية، وبدأ التوسع في فسح ما لا يتعارض مع قيم الدين أو يخدش الأخلاق الفاضلة، إلا ما وقع سهواً أو تحايلاً من بعض الناشرين للتكسب والتربح؛ ولكن من يسلك هذا المسلك يحرم من المشاركة في المعارض القادمة، ومن ذلك أيضاً مسألة دخول النساء للمعرض وتسوقهن من الكتب؛ فقد عانى المنظمون في بداية انتقال المعرض إلى وزارة الثقافة والإعلام عنتاً ومشقة لإقناع فئات من المجتمع بأن مسألة التسوق من معرض الكتاب لا تختلف عن أن أية حالة تسوق أخرى من مجمع تجاري أو زيارة لمستشفى؛ بل إن النساء والرجال يجتمعون سوياً في أداء نسك الحج والعمرة في السعي والطواف؛ ومن أجل التمهيد لتطبيع حالة التسوق البشرية على حد سواء عند النساء والرجال معاً دون حساسيات أو مخالفات أو تجاوزات أخلاقية كان لا بد من وضع نظام «يوم للنساء» و»يوم للرجال» ثم «للجميع»، وهذه الجملة الأخيرة كانت المنطلق لتطبيع الحالة الشرائية التي لا تختلف عن غيرها؛ فأصبح الأمر بعد موسمين من «للجميع» في يوم أو يومين، إلى أن يكون المعرض مفتوحاً للجميع طوال أيام المعرض العشرة!
إنها حالة الفطام المريرة من العادة الثقيلة الغالبة المستحكمة حين تأسر وتنازع النفس في سبيل الخلاص منها!