أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إننا في وطن الخير والأمن والأمان، المملكة العربية السعودية نعيش نعماً متتالية، وآلاءً متتابعة، أعظمها وأتمها وأكثرها تحقيقا للأمن والسعادة في الدارين نعمة التوحيد الخالص، والعقيدة الصافية النقية التي هي أجلّ نعم الله، وهي سبب ما ننعم به من خير وفضل، وولاية راشدة تحمي هذا الأصل، وتغار عليه، وتؤكده في كل محفل، بل ويستهل كل حاكم وولي أمر حكمه وولايته بالتأكيد عليه، وفي هذا الإطار نتذاكر بفخار واعتزاز، وسعادة واطمئنان، ما صدر يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر جمادى الأولى، من عام ستة وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة، من ملك الوفاء والتاريخ والإِنسانية، وحكيم الأسرة الماجدة من آل سعود من خطاب مهم، وبيان موفق مسدد، ورؤية عميقة، ونظرة ثاقبة ترسم مستقبل حكمه الرشيد، وتبيّن منهاجه المبني على ثوابت راسخة وأسس عظيمة، هي تاج فخار على صدر كل مواطن بل كل مسلم، ومصدر اعتزاز وسعادة للجميع، كلمات جامعة نبعت من القلب، ولامست شغاف الملايين من هذا الشعب الوفي الأبي، حملت كل معاني الإخلاص والوفاء، والصدق والأمانة، والمسؤولية والقوة، والعطاء والحكمة والرشاد، والمحبة والحميمية التي عهدناها من مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، تجعل كل من سمعها يقول وبلا تروٍ ولا ترددٍ، وبكل صدق وإخلاص: الحمد لله الذي حفظ لنا ديننا، ووفق ولاة أمرنا وسددهم، ويقول معاهداً مجدداً بيعة الوفاء: سر مليكنا المفدى ونحن جنودك، وكلنا آذان صاغية لك، يعلم الله ويشهد أنك في قلوبنا، وأننا نحبك ونفديك، ونعاهدك على الوفاء، ويقيني أن هذا الشأن يقوله ويشعر به كل مواطن سمع تلك العبارات من ملك الوفاء والحكمة، إنها كلمات من ولاة أمر أوفياء، وقادة أماجد، راقبوا الله في رعيتهم، وتحملوا أمانتهم في رقابهم، وعاملوا الله في مسؤولياتهم فهم مع شعبهم ومنهم، لا يفصلهم عن شعبهم حواجز السلطة والمسؤولية، بل هم في قلوب رعيتهم، والشعب يعيش في قلوبهم، ولذا حملت تلك الكلمات والجمل معاني عظيمة، ودلالات كبيرة، حملت الحب الكبير للشعب العظيم، تلكم المحبة وذلكم الوفاء الذي عبر عنه خادم الحرمين الشريفين بقوله: يطيب لي في هذا اليوم أن أتحدث معكم من قلب يحمل لكم كل المحبة والإخلاص.
وحملت التقدير لكل من أسهم وعمل، والوفاء لكل من قضى من ولاة أمرنا حيث هي سنة الله سبحانه، وعلى رأسهم الملك المؤسس العظيم المجاهد البطل عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل - طيَّب الله ثراه وأسكنه الجنة دار الأبرار - وأبناؤه من بعده، سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله رحمهم الله جميعا، كما حملت مضامين مهمة من تحقيق أعلى وأجل معاني الوحدة.
- حقًا إنها ملحمة الوفاء، والحب والإخاء، جسدها مليكنا المفدى - حفظه الله - بهذا الخطاب التأريخي الذي استهل به عهده الميمون المبارك وإن العبارات تتقاصر، والجمل تتناثر، وتغيب كل المعاني البلاغية، دون تصور ما تحمله من معان كبيرة ودلالات مهمة هي في مجملها ترسيخ لثوابت هذه الدولة، ولا نملك إزاءها إلا أن نبادل المليك حباً بحب، ونحمد الله - جل وعلا - أن وفق خادم الحرمين الشريفين بهذا القول السديد.
أما أهم الدلالات والمعاني العظيمة التي ركز عليها خادم الحرمين الشريفين في خطابه الملكي فقد تركزت في أعظم ما تركزت عليه على ثوابت هذه البلاد المباركة، والدولة الإسلامية التي قيضها الله في هذا العصر لحماية هذا الدين، وحراسة أصله وعقيدته الصافية منذ قيامها، وتأسيسها، ثم توحيدها على يد الملك الصالح المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - طيَّب الله ثراه وجعل الجنة مأواه - ليقيم هذه الدولة المباركة على أساس من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - والتزام منهج سلف الأمة، وينتصر لدين الله، ويقيم أعظم وحدة في التأريخ المعاصر، ارتكزت على أساس الدين، ومقاصده، وقامت على أشمل منهج وأساس يجمع بين أصالة المبادئ والأسس والقواعد، ومعاصرة الرؤية والأساليب والوسائل كما قال - حفظه الله - : (لقد أسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - وأبناء هذه البلاد دعائم هذه الدولة وحققوا وحدتها على هدى من التمسك بالشرع الحنيف، واتباع سنة خير المرسلين - صلى الله عليه وسلَّم - وخلال العقود التي تلت مرحلة التأسيس إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - ودولتكم ولله الحمد تسير على خطى النمو والتطور بكل ثبات، مع التمسك بعقيدتها الصافية والمحافظة على أصالة هذا المجتمع وثوابته).
وما دام أن هذا هو المنهج الذي تحمل مليكنا أمانته وحمل على عاتقه مسؤوليته فإننا ندرك بذلك سراً من أسرار العز والتمكين الذي أيدهم الله به، مصداقًا لقول الله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ أمنوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا استخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمنا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، وقوله جل شأنه: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهم فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأمروا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور [الحج:41]، وهذه الثوابت تعد من الرواسي والمرتكزات التي قام عليها هذا الكيان العظيم المملكة العربية السعودية، ويعززها ويقويها اعتمادها دستورًا للبلاد وأساسًا للحكم، في النظام الأساسي صريحا ومتضمنا، فالحمد لله على هذه الآلاء العظيمة، والنعم المتجددة، واستمرار هذا النهج السديد والركن الأصيل في هذا العهد الزاهر المبارك عهد مليكنا المحبوب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - أيَّده الله وأمد في عمره على الطاعة - وهو عالم التأريخ، وحكيم الأسرة، وفارس المجد، الذي يدرك بحكمته وحنكته قيمة هذا التأريخ المجيد لمملكة العز والسؤدد المملكة العربية السعودية، ويكفي للتدليل على ذلك أنه كان ولا يزال رئيس مجلس دارة الملك عبد العزيز، وهذه فرصة مكّنته من الرصد والقراءة واستيعاب التأريخ، وقد سمعنا منه في مجالس متعددة قراءة عجيبة واعية للتأريخ، يوقفنا فيها على عمقه، ونهمه في القراءة، وإدراكه لأبعاد عظيمة، وما رسالته إلى رئيس قناة المستقلة وضيفه وفيها بيان لحقائق تأريخية، والأصل الذي قامت عليه هذه الدولة، وبيان الأسس العلمية لمثل هذه الأطروحات إلا أنموذج على ذلك، والحق أنه ليس تأريخ المملكة فحسب بل هو تأريخ الإسلام والعرب في جزيرة العرب في هذا العصر، وخادم الحرمين الشريفين - أيَّده الله - يدرك أهم عمق في هذا التأريخ المجيد وهو ما تضمنه من خدمة الثوابت، وحماية جناب الشريعة، وتأكيد هذه الأصول العظيمة، والأسس المتينة، وتعزيز دور العلماء والمؤسسات الشرعية، وتحقيق العدل وإرساء دعائمه، ومقاومة مظاهر الفساد والمفسدين، ومصادر الفساد. وهذا ما جعله خادم الحمين الشريفين منهاجا لحكمه الممتد بإذن الله.
ارتكز هذا الخطاب على حفظ حرمة الدين، وحماية جناب الشريعة، وتحقيق العدل الذي قامت به السموات والأرض، عدل في الحكم، وعدل في التعامل والتصرف، وعدل في التنمية ليكون كل المواطنين في اهتمام الملك الهمام سواء، ونظره إليهم نظر الأب المشفق، والأخ الناصح، والولي العادل، هذه الثوابت هي أساس قيام الملك امتدادا لنهج أرسى دعائمه الملك المؤسس، وسار عليه جميع أبنائه البررة، حيث يقول: «وعملاً على مواصلة البناء وإكمال ما أسسه من سبقونا من ملوك هذه البلاد - رحمهم الله - وذلك بالسعي المتواصل نحو التنمية الشاملة المتكاملة المتوازنة في مناطق المملكة كافة، والعدالة لجميع المواطنين..... إن كل مواطن في بلادنا، وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى».
إن هذا هو الهدف الرئيس، والمقصد العظيم الذي أعلى إمامنا وولي أمرنا تأكيد ملامحه، وإرساء دعائمه لهو ضمانة الله للاستخلاف في الأرض، وموعظة الله التي امتدحها فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأمركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ . يقول الشيخ السعدي - رحمه الله - وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، والقليل والكثير، وعلى القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو.
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه لاشتمالها على مصالح الدارين، ودفع مضارها، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفي عليه خافيه، وقال سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ أمنوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا استخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .
وهنيئاً لنا بولاة أمر يجعلون ذلك همَّهم، ويخشون الله في رعيتهم، وهنيئاً لهم بموعود الله الذي أوضحه رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - حينما جعل أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل. نسأل الله أن يحقق لولاة أمرنا ولنا جميعاً ذلك.
أما المرتكز الثاني الذي اعتمده مليكنا في خطابه - أيَّده الله - فهو التطوير المعتمد على الصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد والإفساد، وحفظ الحقوق، وحماية الثوابت أن تمس، وتلكم معادلة مهمة، تحقيق التوازن فيها حماية للأمن العقدي والفكري، وحصانة للأجيال القادمة، وانطلاق من نصوص الشرع وقواعده ومقاصده العامة والخاصة، إِذْ لا يخفى أن المقصد العام من الشرع هو تحقيق المصالح، ودرء المفاسد أو تقليلها، فما أمر الشرع بأمر إلا ومصلحته خالصة أو راجحة، ولا نهى عن شيء إلا ومفسدته خالصة أو راجحة، والحكم في القضايا والنوازل والحوادث والمتغيرات ينسجم مع هذه المقاصد ليتحقق الصلاح الذي هو رسالة الرسل جميعاً، كما قال الله عن شعيب - عليه السلام -: إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا استطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ . ويقول سبحانه عن موسى - عليه السلام - في قوله لأخيه هارون: (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فمسايرة العصر، ومواكبة المتغيرات، والبحث عن أفضل الممارسات، والارتقاء بالخدمات وفق هذه المعطيات هو روح الصلاح والإصلاح، وهو حكمة الله في الاستخلاف ما دام المؤطر لهذه التصرفات هو ثوابت هذه الشريعة، ومحكماتها المحققة للحكمة الرئيسة من التشريع، وهذا التوازن في الحكم ليحقق هذه المثالية هو شأن الحكيم الذي يمنحه الله الحكمة وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ، إِذْ مدلول الحكمة إحسان التصرف، وموازنة الأمور، ومقايستها بالنظر في ماهيتها، وعللها، ومآلاتها، ليكون الشأن بعد ذلك وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، وبتحقق هذا النهج الفريد تتم المعادلة الصعبة في الحفاظ على الأصالة، والمعاصرة، أصالة المبادئ والأسس والقواعد والثوابت، ومعاصرة الأساليب والطرق والوسائل.
والمرتكز الثالث في هذه النظرة الثاقبة لمليكنا المفدى التي تضمنها خطابه - أيَّده الله - فهو الشمولية في هذا العمل التطويري الإصلاحي، فقد شمل كافة مناحي الحياة، واستوعب الأجهزة والمؤسسات التي تخدم هذا الوطن ومواطنيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فهي رسالة أن هذا الإصلاح ما لم تقع الشراكة فيه من الجميع متحملين مسؤولياتهم، مؤدين أماناتهم فلن يتحقق الهدف، فالكل مؤتمن على هذا الوطن ومكتسباته، والكل شريك في هذه التنمية التي مقومها الرئيس العنصر البشري، وعلى كل قسطه من المسؤولية بحسب مكانته وموقعه، وأبلغ وصف لهذه الشراكة قول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلَّم - «ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى «. وقوله في جانب المسؤولية (مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ استهَموا على سَفِينَةٍ، فَأصاب بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا، فإنَّ تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا). [رواه البخاري عن النعمان بن بشير]، هذا المثل بليغ جداً، لأن المصلحة مشتركة، وأن سلامة المؤمنين كلٌ لا يتجزأ، فإذا أخطأ بعضهم انسحب هذا الخطأ على الباقين، وهكذا نحن في هذا الوطن العزيز مطالبون بهذه الروح التي نتقاسم فيها المسؤولية.
فهذه الكلمات النابعة من القلب الرحيم، والرأي الحكيم إيذان بعهد تنتهج فيه آليات جديدة للوصول إلى أسرع النتائج في تحقيق منظومة الإصلاح التي هي نهج ولاة أمرنا جميعاً، ومحاربة كل صور الفساد وأشكاله، فلا مجال للتباطؤ والتأخر، ولا المماطلة والتسويف، وإنما هو عمل مخلص، وجهد دؤوب يعتمد المسؤولية التامة، والشفافية لتصل الأمور إلى المثالية المنشودة، وتوضع الحلول التي تعالج المشاكل التي تعترض طريق التنمية، في تراتبية تبدأ من التشريعات، وتنتهي بالواقع المعاش، مجلس الشورى والمجالس الأخرى تتكامل في رسم صورة هذا المستقبل الواعد، والغد المؤمل، الذي لا تحد طموحات مليكنا فيه حد، بل غايته فيه رضا الله سبحانه، وإسعاد مواطنيه بتوافر كل الخدمات والإمكانات التي تصل إلى كافة أنحاء الوطن ومواطنيه، لينعم الجميع بما أفاء الله عليهم، كيف لا والبلد تتوافر فيه مقومات الفضل وخصائص التميز، فهو الوطن الذي خصه الله بخدمة الحرمين الشريفين والبقاع المقدسة وقاصديها من عمار وزوار، وامتن الله عليه بأن جعله مهوى الأفئدة، ومهبط الوحي، وبلد الإسلام، ومأرز الإيمان، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمنا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ، وهذه منة وميزة تحمل الجميع مسؤولية مضاعفة في تجسيد مقومات المواطنة الصالحة عملاً صالحاً، وعبادة خالصة من شوائب الشرك والبدع والخرافات، كما هي ميزة هذه البلاد، وقياماً بواجب الأمانة وتكاتفاً وتعاوناً وسمعاً وطاعة لولاة الأمر، ونصحاً والتفافاً، واجتماعاً، وهذا ما يذكرنا به ولي أمرنا في هذا الخطاب، الذي اتجه فيه أولا إلى المسؤولين عن أمانة الكلمة في وسائل الإعلام بالدرجة الأولى كون الإعلام قوة مؤثرة في واقع أي مجتمع، بل هو عماد الإصلاح إذا ما تم توجيهه بشكل صحيح، فها هو يقول سدد الله قوله «وإن للإعلام دوراً كبيراً وفق تعاليم الدين الإسلامي الصحيح في دعم هذه الجهود، وإتاحة فرصة التعبير عن الرأي وإيصال الحقائق، وعدم إثارة ما يدعو إلى الفرقة أو التنافر بين مكونات المجتمع».
حقاً ما أحوجنا إلى الوحدة واللحمة والتعاون في هذا الزمن المليء بالفتن والأحوال والتحولات، والمتغيرات التي عانت ولا تزال تعاني منها بلاد مجاورة أصبحت الأحوال فيها مضطربة، والأمور فيها محيرة، وتداعى أهل الشر منذ زمن ولا يزالون لإدخال مملكة الوحدة والإِنسانية، ووطن العطاء والنماء في أتون هذه الفتن، ولذا فإن ثقتنا بالله - جل وعلا - ثم بثوابتنا، وسياسة ولاة أمرنا الحكيمة التي تعتمد الصدق والشفافية والصراحة والقرب بين الراعي والرعية، والمحبة غير المتكلفة، وتحقيق قوام الملك وأساسه من الحكم بشريعة الله، وإقامة العدل وسياسة الأمور به، وفي مقابل ذلك قيام المواطنين بتحقيق المواطنة الصالحة من السمع والطاعة والنصح والتعاون والتكاتف والتعاضد وبذل الحقوق تعبدًا لله، والالتفاف والاجتماع، والبعد عن مسببات الفرقة والاختلاف ليحفظ الله وطننا من هذه الفتن وتداعياتها، ويبارك هذه المسيرة التي تبنى على الاجتماع والوحدة، ولهذا من المعاني المهمة، والدلالات التي أكدها ملك الحكمة، البعد عن مسببات الفرقة من التحزب المقيت، والانتماءات الحزبية، والتصنيف المشين الذي لا يعالج واقعاً، وإنما يزيد الهوة، ويوسع الخلاف، ويفرح العدو.
أما الجانب الآخر الذي ركزت عليه كلمة خادم الحرمين الشريفين فهي السياسة الخارجية للمملكة التي لا تخرج عن الثوابت التي انتهجها ولاة أمرنا، وهي أصل من الأصول التي قامت عليها هذه الدولة المباركة، ولذلك فإمامنا خادم الحرمين الشريفين يقتفي أثر آبائه وأجداده الذين عاهدوا الله على جمع كلمة المسلمين، وبذلوا التضحيات في سبيل ذلك، يقول الملك المؤسس الباني الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن - طيَّب الله ثراه - : «أنا مسلم، وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين، وليس عندي أحب من أن تجتمع كلمة المسلمين، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي في سبيل ذلك»، ويقول - رحمه الله - : «إن المسلمين بخير إذا اتفقوا وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - ليتقدم المسلمون للعمل بذلك، فيتفقون فيما بينهم على العمل بكتاب الله وسنة نبيه وبما جاء فيهما، والدعوة إلى التوحيد الخالص، فإنني حينذاك أتقدم إليهم وأسير وإياهم جنبًا إلى جنب، في كل عمل يعملونه، وفي كل حركة يقومون بها»
وتتحمل المملكة العربية السعودية هذا الموقف الإسلامي الذي يهدف إلى التضامن، وجمع الكلمة، ووحدة الصف بما بوأها الله من مكانة دينية شرعية في العالم الإسلامي، فهي بمثابة القلب من الجسد، تحوي المقدسات، وتضم المشاعر، ومنها انطلق الإسلام إلى بقاع المعمورة، وقبل ذلك هي مهد الرسالة، ومهبط الوحي، ومأرز الإيمان، فلا غرو أن يكون هذا الهم العظيم من قدر من اختارهم الله لولاية هذا البلد الإسلامي إدراكًا منهم لأثر هذه البلاد على غيرها، ولذلك فهي القدوة والأسوة لبقية بلاد المسلمين، نسأل الله أن يحقق هذا الاجتماع والوحدة على يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله - .
تلك وغيرها من المعالم الرئيسية التي أعذر فيها ولي أمرنا إلى الله، وحملنا مسؤولية تحويلها إلى حقيقة ثابتة، وواقع مشاهد وملموس، لتثبته الأيَّام عبر المواقف الرائعة التي تدل على التكاتف المجتمعي، الذي لا يوجد في مجتمع آخر، وهذا التعاضد والتماسك الذي بني على أسس شرعية، وقواعد متينة، من أبرز مقومات الثبات أمام عواصف الفتن، وعولمة الإرهاب، ونستشرف من خلال ذلك التأييد من الله، والحفظ الموعود به من حمى المقدسات، وأقام شريعة الله، وهذا سر اللحمة والملحمة التي يحق لنا أن نفاخر بها، ونحمد الله عليها، ونتحمل المسؤولية تجاه الحفاظ عليها، وحمايتها من عوامل التغيير والزوال الذي قد يتلقفها بعض دعاة السوء والفتنة، ويلبسون بها والله المستعان.
والحق أن الحديث عن جوانب هذا الخطاب الملكي الكريم وما رسمه خادم الحرمين الشريفين - أعزه الله - من خلاله، والتقاء المشاعر والقلوب على محبته، وما يشعر كل مواطن وكل مسلم تجاه النعم التي تتوالى على وطننا في ظل هذا الحكم حديث ماتع، ومحبب للنفوس، واستجلاء هذه الجوانب المهمة يتطلب حديثًا طويلاً، ولن نصل إلى الوفاء بما نريد، لكنها إشارات ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ويكفينا حديث المصطفي - صلى الله عليه وسلَّم - : (أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ).
فالحمد لله الذي منّ على إمامنا وولي أمرنا بالتوفيق، ونسأل الله أن يَتمَّ عليه نعمة الصحة والعافية، ويلبسه لباس التقوى، ويجمع به كلمة المسلمين، ويعلي به شأن السنة والتوحيد، ويجعله من أنصار دينه، وحماة شريعته، ويشد أزره بولي عهده، ونائبه الثاني، ويوفقهم إلى كل خير، والحمد لله رب العالمين.
وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.