جارالله الحميد
لا يمكننا أن ننسى عبارة (الأحلام الميتافيزيقية) التي يكررها الراحل (غالب هلسا) في معظم رواياته. إنه كائن يسير وفقاً لمنهج مرسوم مسبقاً، ويشعر تبعاً لذلك بأن الحياة بما هي حلم واسع بالتغيير للأجمل تنتكس في لحظات قربها من الانتصار. ويؤلمني في سياق إيراد اسم الراحل الكبير ما قاله عنه الشاعر البحريني الكبير (قاسم حدّاد).
- أخطأته رصاصة! وأصابه: فندق بعيد
كان غالب هلسا من أهم كتاب الرواية في العربية إن لم يكن أهمهم على الإطلاق؛ فهو يكتب دون تخطيط مسبق، ودون عمليات تجميل، أي أن اللغة بالنسبة إليه هي مجرد أداة للبوح. في هذه اللحظة أتذكر حنين الناي. إن ملخص حياة غالب أنه إنسان مجروح! وكفى.
الجرح يبدأ من جرح الخاطر. عندما يكون صدرك جياشاً بالحب والولاء والفداء، وترى الآخرين يهزؤون بك، يتم كسر خاطرك، بعدها تتوالى الكسور، وتتوالى الجراح. ويتحدثون عن قيم ثقافية مشتركة ورئيسية وهم يمارسون محو الكلام. وعندما تبدأ المؤسسة الرسمية بمحو الكلام فهذا يعني بدقة أن العيش مرّ، والكلام أمرّ منه. «وش حادك على المرّ؟ قال الأمرّ منه!». خلاصة قبيحة لإنسان ظل يناضل حتى الرمق الأخير، وحتى قال عنه قاسم حداد «أخطأته رصاصة، وأصابه فندق بعيد!». إن الإنسان العربي يشعر بالتمزق، وينخر قلبه الجرح؛ فهو يعيش عزلة يفرضها عليه مجتمعه الذي لا يؤمن بغير الموضوعات التقليدية في العيش المشترك؛ لذا فإن شراكته مع المجتمع هي (محل إعادة نظر!)! إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش مثل ضيف أو عابر سبيل في وطنه؛ فهو بهذا يقوم بانتقاص ذاته، ويقف ضد سيرورته ككائن مُنح حق الاختيار وحقّ الانتماء لأي حقل من حقول العمل الإنساني؛ فهو بهذا يقوم بثورة مضادة على جذوره وتراثه الثري والعميق.
كان (غالب هلسا) يملك نشاطاً سياسياً، ويكتب رواياته التي تعدّ بحق كل واحدة منها أجمل من الأخرى. ولو توقفنا قليلاً عند روايته (البكاء على الأطلال)، وهي رواية رغم غرابة بنائها الفني الذي يحتاج إلى قارئ خبير، هي رواية حزينة تحكي أيامه الأخيرة في (مصر) التي أحبها كما لم يحبها أحد من قبل. والأحلام الميتافيزيقية (أي: فوق الواقعية) هي أحلامه التي بلغ به الأمر أن يفيق من حلمٍ كابوسي ليعود فينام، ويكمل الحلم نفسه. وكان إنساناً شعرياً، يشبه الشجر والعشب والماء، وكان حزيناً - بالضرورة - لما آلت إليه أحوال العالم العربي.. وحزن النبلاء لا يشبهه حزن آخر؛ فهو حزن يلبي أمر الله العظيم الذي يطلق القرآن الكريم عليه (الصبر الجميل)، ووصفه بالـ (جميل) كون الله تعالى اختار له هذا النعت كدليل على الرضوخ للأمر الواقع. فيعقوب ومريم ويوسف (شخصيات قرآنية) كلهم قالوا بوحي من الخالق تعالى الذي يرى في الإذعان لرغبة الأهل مهما كان خطؤها نوعاً من (الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) لهذا ولأن طاعة ذوي الإنسان ذلك النوع من الطاعة غير الواعية وغير المبررة، التي اختارها الله للحفاظ على كيان الأسرة.
ربما - ويا ليتنا - نستطيع العودة بالتفاصيل حول هذه العلاقة التي يسميها (غالب هلسا) بالأحلام الميتافيزيقية - أي تلك الرؤى التي يفسرها علماء النفس بـ (وراء أو ما بعد الغيبية أو غير الواقعية)، التي تلتبس على الإنسان المبدع؛ فيخلط بينها وبين واقع جاف ومتكرر، ولا أحد يهتم لاعتراضهم.
نود أن يعيننا على الصبر!