لبنى الخميس
في وسط الصحاري الممتدة على مرمى النظر، وفوق رمال ذهبية حارقة، أزهرت مدينة «مصدر»، كنبتة متمردة وطموحة، تتحدى ظروف المكان والزمان، وتخلق من شحّها ثروة، ومن عزلتها جسور تواصل وتلاقح للأفكار والخبرات، التي أتتها من كل مكان، مأخوذة بإرادتها الفذّة، ونظرتها الثاقبة النّهمة للمستقبل، لتجعل من نفسها مدينة فريدة من نوعها بمساحة 6 كيلو مترات خالية من الكربون، وتجمع ملّهم للعقول والكفاءات المحلية والعالمية، التي اتّحدت عازمة لصنع غدٍ أفضل، يحيا على طاقات متجددة ونظيفة، وإيجاد حلول جذرية للقضايا الملحّة، التي تؤثر في حياة الإنسان بشكل عام، والمتمثلة في أمن الطاقة والمياه، والتغير المناخي.
هذا ما اسّتشعرته وأنا أراقبها عن كثب، ضمن زيارة تعريفية قدمت لنا ولمجموعة من الطلاب القادمين من جامعة هارفرد. تلك المساحات التي ولدت داخل مجتمع صحراوي عاش فترة طويلة من الزمن بطاقة قوامها الشمس والماء والنخل والإبل، في صورة بدائية مدهشة، ومتصالحة مع مصادر عطاء الطبيعة وعوامل الجغرافيا، بقيادة الأب الروحي لدولة الإمارات الشيخ زايد -رحمه الله، الذي عرفه الناس بسيطاً، محباً للصحراء ولكل ما تمنحها من سكينة وتناغم روحي مع الله والطبيعة.
من هنا أطلق أبناؤه بقيادة الشيخ خليفة رئيس دولة الإمارات هذه المبادرة، التي تقودها شركة أبوظبي لطاقة المستقبل (مصدر) التي تحظى بإيمان ودعم حكومي كبير، لدورها الحيوي في دفع أبوظبي للريادة والتفوق في مجال الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة.
فيقول رئيس مجلس إدارة الشركة: «نحن نفكر بآخر باخرة نفط ستخرج من أراضينا، وقتها نريد للأجيال القادمة أن تدعو لنا ولا تدعو علينا».
من هذا المنطلق ولدت تلك المساحات، لتضم معهداً علمياً ومعامل ومختبرات، وحقولاً مدهشة للطاقة الشمسية.. التي تشغل اليوم مطار العاصمة أبوظبي بالكامل، موفرة كميات هائلة من الكهرباء ومستعيضة عنها بالطاقة البديلة.
مصدر لا تضم حقولاً شمسية ومرواح ضخمة فحسب، بل معهداً للدراسات العليا بدأ بـ 92 طالباً قبل حوالي ثمانِ سنوات، وها هو اليوم يحتضن 700 طالب، في برامج مكثفة ذات صلة بالطاقة وعلوم المستقبل، تشرف عليه وتقيّمه جامعة ماساتشوستس للتقنية (ام آي تي) أحد أعرق وأهم الجامعات العلمية في العالم بأكثر من 60 فائزاً بجائزة نوبل، وباقة من أهم الاختراعات العلمية التي خرجت من رحمها، كالويب والتلفون الفضائي أو ما يعرف اليوم «بالجوال» والبريد الإلكتروني «الإيميل»، وغيرها من الاختراعات الثورية في حقول التكنولوجيا، كل تلك الإمكانيات والخبرات استقطبت وسخّرت لخلق منصة علمية واعدة.
مصدر لا تعمل لوحدها بل طوّرت شراكات استراتيجية متعددة مع مؤسسات حريصة على الاستثمار في هذا الجانب، كشركة سيمينز الألمانية وهي أكبر الشركات الأوروبية في مجال الهندسة الكهربائية والإلكترونية الحديثة، التي اتخذت لها مقراً جديدا ًفي حرم المدينة، تقدم من خلاله منحاً مادية لطلاب المعهد للبحث العلمي، وتحويل بذور الأفكار النيّرة إلى غرس حضاري وعلمي يخدم مسيرة العلم والإنسان.
فلكم أن تتخيلوا هذه البيئة العلمية الخلاقة التي بنتها، وسعت لتوفيرها لطلابها وطاقم تدريسها، عبر مبانيها العصرية الملهمة، ومختبراتها العلمية المجهزة، ومنحها المادية السخيّة، كل ذلك يعطيك رسالة واضحة مفادها أن الإدارة ومن خلفها حكومة أبوظبي تؤمن بكم، وتثمن جهودكم، وتستثمر أحلامكم في بنك التطور والتقدم البشري كودائع بشرية لا تعرف الخسارة.
مصدر ليست مشروعاً تجارياً، ولا استعارضاً حضارياً، بل هي نتاج جهد دام سنوات طويلة، واتفاقيات أخذت وقتها في البحث والإقناع، وأموال ذهبت في مكانها الصحيح لتصنع صرحاً فاتحاً يديه وقلبه للمستقبل.. ليبقى السؤال ماذا قدمت الدول الخليجية الأخرى التي ابتليت «بلعنة» النفط وما خلفه من تخمة وكسل؟ ومتى يا ترى تستفيق من غيبوبتها لخلق موارد متجددة لا تنضب، ولا تخضع لمزاجية السوق وسياسات قادة الدول العظمى؟ وهل ستقتبس من تجربة أبوظبي في حفر بئر خير يفور بالعزيمة والوعود؟!