أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ في السبتيَّة الماضية شيئاً من سوريالِيَّةِ (حُلْمِ اليقظة) في تجرِبتي: عن كونِ ذي حُلْمِ اليقظة معتاداً على حَمْل نُسيخاتٍ من تأليفاته إلى الوزارات في الأزمات التي كان فيها التأمين مشتركاً بين كل الوزارات والمصالح الحكومية وليس قاصراً على جهة، وكان الحالمُ
في حالة ضيق ذات يده؛ فيحلِمُ في نومه أنَّ له مؤلفاتٍ طبعها في القاهرة، ووزع بعضها على المكتبات لتسويقها، وَوَكَّل من يتقاضى ثمنَها (ومن ضمنها مؤلَّفٌ نفيس مُسْتوْعِبٌ له رواج)؛ وحينئذ يسعى بكل جد لإنهاء تذكرةِ السفر إلى القاهرة!!.. ثم يصحو ولا شيئَ مِمَّا ذُكر؛ فمن تلك الصورة حديث نفسٍ انتهى باليقظة، وهو يعلم أنه ليس له كتبٌ في القاهرة، وأنه لا مطمع في ريعٍ بسيط من عُمْلَةٍ قيمتها آنذاك بالصاغ وهو القِرْش في عُرفنا؛ فهو لن يحصل عليه إلا ببديل يشتريه من هناك، أو أن يصرف ساغاته بعملةٍ أجنبية من الجنيه الإسترليني أو اليورو أو الدولار أو اليَنِّ.. ولو كانت مكتبات التسويق تبعد عنه مقدار مشيِه نصفَ ساعة ما مشى من أجلها، وهو أيضاً يعلم أنه ليس له كتاب نفيس طبعه هناك.. ولكنَّ البليَّةَ حين يُصبحُ هذا الحلم عقيدةً في النفس حال اليقظة تلازمه أعواماً فيظلُّ على الاعتقاد بأن له غلَّةَ كتبٍ كثيرةً لا بد أن يرحل من أجلها.. ويلازمه حلم اليقظة بجلبِ كل النسخ من الكتاب النفيس الرائجة سوقه وليس عنده نسخة منه لا مخطوطة ولا مطبوعة.. وليس هذا الكتاب على الحقيقة إلا مشروعَ تأليفٍ في ذاكرته ينوي إنجازه، وقد رسم في ذاكرته مادةَّ الكتاب فقراتٍ ومسائلَ وفصولاً وأبواباً؛ فإن لازم هذا الحلمُ صاحبَه مدى عمره فذلك هلوسة.. ومِن تلك الصُّور أنه يُعاني نظم قصيدةٍ يريد إكمالها، أو تَخيَّل عناصر قصة يريد حبكها، أو تحقيقَ مسألة فكرية علمية أو ثقافية؛ فيجد في الحلم إفاضة ممتعة تُثري ما همَّ به من مشروع علمي أو ثقافي أو جمالي، ثم يصحو وقد تسرَّب من ذاكرته ما أُرِيه من الحُلْم سوى عناصرَ وإضاءاتٍ إن بادر إلى تسجيلها بعد تلاوته أذكار اليقظة من النوم انتفع بها، وهذا النوع مصدر للأدباء والمفكرين السَّوِيِّين من غير أدباء وفلاسفة اللامعقول، ومن نماذجه في تراثنا ما ذكره الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتاب (مختصر طوق الحمامة) ص168- 169.. قال: «دخلتُ يوماً على أبي السَّريِّ عمَّارِ بن زياد صاحِبنا مولى المؤيَّد؛ فوجدته مفكِّراً مُهْتمَّاً، فسألته عمَّا به؟.. فتمنَّع ساعةً، ثم قال لي: أعجوبةٌ ما سُمِعَتْ قطُّ.. قلتُ: وما ذاك؟.. قال: رأيتُ في نومي الليلة جاريةً فاستيقظتُ وقد ذهب قلبي فيها، وَهِمْتُ بها، وإني لفي أصعب حالٍ من حُبِّها!!.. ولقد بقي أياماً كثيرةً تزيد على شهرٍ مغموماً مهموماً (لا يَهْنئُهُ شيئ وَْداً) إلى أن عذلْتُه، وقلتُ له: من الخطإ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقةٍ، وتُعَلِّقَ وهْمَك بمعدومٍ لا يوجد.. هل تعلم مَن هي؟.. قال: لا والله.. قلتُ: إنك لفائلُ الرأي [أي ضعيفُه]؛ والاشتقاق من السِّمَن الذي هو مَظِنَّة الضعف نشاطاً جِسْمِيَّاً وموهبةً؛ ولهذا قالوا عن بهيمة الأنعام في الربيع إذا لم تستطع المشي من السِّمَن: (لو عَقَلَتْ ما سَمِنَت)؛ فهو متفيِّل من (الفيل) الحيوان المعروف؛ فكلُّ ما زاد عن حَدِّه فهو مُتَفَيِّلٌ.. ثم قال أبو محمد مُعَنِّفاً [صاحبه]: إنك لفائل الرأي، مصابُ البصيرة؛ إذ تُحِبُّ من لم تره قط ولا خُلِقَ، ولا هو في الدنيا، ولو عشقتَ صورةً من صور الحمَّام لكنتَ عندي أعذر.. فما زلتُ به حتى سلا وما كاد.. وهذا عندي من حديث النفس وأضغاثها، وداخلٌ في باب التمني وتَخْييل الفكر، وفي ذلك أقول شعراً منه:
يا ليتَ شِعريَ مَن كانتْ وكيفَ سرتْ
أطلعةَ الشَّمسِ كانتْ أم هي القمرُ
أظنُّه العقلَ أبداه تدبُّره
أو صورةَ الرُّوحِ أبدَتْها ليَ الفِكرُ
أو صورةً مُثِّلتْ في النفسِ من أملي
فقد تخيَّل في إدراكها البصرُ
أو لم يكُن كلُّ هذا فهي حادثةٌ
أتى بها سبباً في حَتفيَ القَدَرُ
وعن صورة الحمَّام بيَّن الشيخ عبدالحق تركماني في تعليقه على (مختصر طوق الحمامة): أن جدران الحمامات في الأندلس تُزَيَّن بالصُّور، ثم نقل عن كتاب المُوَشَّى قوله: (وبلغنا أن منهم مَن عَشِق صورة في حمام، وخيالاً في منام، وكفَّاً في حائط، ومثالاً في ثوب).
قال أبو عبدالرحمن: هذا غرام شهواني، وليس حُبَّاً روحياً، وهو من دواعي (جَلْدِ عُميرة).. ولأبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى ثلاثةُ أبياتٍ حفظها وهو نائم، ثم أضاف إليها البيت الأخير كما في كتاب (مختصر طوق الحمامة) ص321.. قال رحمه الله تعالى: «ثلاثةُ أبياتٍ قلتُها وأنا نائم، واستيقظتُ؛ فأضفتُ إليها البيتَ الرابع:
ألا لله دهرٌ كنتَ فيهِ
أعزَّ عليَّ مِن روحي وأهلي
فما بَرِحَتْ يدُ الهجرانِ حتى
طواكَ بنانُها طيَّ السِّجلِّ
سَقاني الصَّبرَ هجرُكُمُ كما قد
سَقاني الحبَّ وصْلُكمُ بِسَجْلِ
وجدتُ الوَصْلَ أصلَ الوجدِ حَقَّاً
وطولَ الهجرِ أصلاً للتَّسَلِّي
قال أبو عبدالرحمن: أبيات النوم أجمل من البيت الذي قاله أبو محمد في اليقظة.. وقد يعرض للنائم حُلْمٌ بعضُه في اليقظة وهو تكملةٌ لما رآه في النوم، ولا فاصل بين الحُلْمين إلا اليقظة؛ وأما الحلم فلم تقطعه اليقظة، وأكثر ما يكون ذلك حينما يأخذ الإنسان فوقَ كفايته من النوم لكسلِ، أو عارضٍ جسدي يُثْقله.. وقد جرَّبت من ذلك كثيراً ولا سيما ما أُريته مِن مناظرات بين طرفين كلما أجاب طرفٌ منهما بجواب: أرسل عليه مُناظِرهُ استفهاماً من جوابه في تسلسل لا ينتهي؛ ففيه ما هو ممتع فكراً، وفيه ما هو مضحك؛ فأصحو مستمتعاً بالحوار، وغيري قد لا يُنهِضُه إلا استغراقه في الضحك؛ فإذا نهض وذكر الله، وأراد تسجيل ذلك تبخَّر الحُلْمُ من ذاكرته إلا من بعض مفرداتٍ قليلة، ولكنه يستطيع أن ينسج على منوالها؛ وهذا مصدر ثريٌّ للمفكر، والمثقف السويِّ، ولمن هو على هلوسة اللامعقول.
والعنصر الثاني: أن المُشابِهَ لأحلام النوم من أحلامٍ اليقظة: همومٌ وذكرياتُ نفس يجمعها مع حُلْمِ النومِ أنها ذكريات نفس، ويفصلها عن النوم أنها تجسَّدت وتجذَّرت فصارت حياةً معايشةً، ولم تكن حُلْمَ نوم عابرٍ.. وأحلام اليقظة قد يعقبها انفصام الشخصية، وذلك من أول مراحل الجنون كما عند (دون كيشوت) الذي تخيَّل أن شخْصِيَّةَ بطلِ الرواية (دون كيشوت) هي المُعَبِّرة عن أحلام الكاتبِ الإسباني (سرفانتس)؛ فكُتِب لروايته الذيوعُ حتى صارت ثقافةً شعبيَّةً عند الأمم.. قال عنها جَبُّور عبدالنور في المعجم الأدبي ص325 - 326: «روايةٌ في جُزأين وضعها الكاتب سرفانتس [1605-1616]، واعتُبرتْ من أشهر الآثار الأدبية العالمية.. مثَّل فيها المؤلِّفُ حياةَ نبيلٍ إسباني من الطبقة الوضيعة يقضي أيامه في منزله مطالعاً كُتبَ الفروسية، ويَغتذي بها ليلَ نهارَ إلى أن يتوهَّم نفسه واحداً من الفرسان الأبطال.. فيخرج من بيته وبرفقته خادمُه (سانشو بانشا) حالماً بالأعمال البطولية، ومساعدة الضعفاء، ومقاتلة الظالمين.. وقد رمز المؤلف بالخادم إلى العقل المفكِّر، والحسِّ العقلي، كما رمز بـ(دون كيشوت) إلى الهَوَس، والحماسةِ التي لا حدَّ لها، ولا أساس.. وتحوَّلتْ الرواية في معظم مشاهدها إلى صراع بين هاتين الشخصيتين المتناقضتين تماماً: الأولى عمليةٌ موضوعية واثقة من الحظِّ والقَدَر.. والثانية مثاليةٌ ساعية وراء الأوهام المستحيلة، ناسيةٌ متطلبات الحياة المادية، غارقة في دنياً من المآثر الخارقة»، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.