أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: رواية دون كيشوت للكاتب الإسباني (سرفانتس) تُرْجِمت إلى اللغة العربية.. وبعض الترجماتِ ترجماتٌ شعبيَّةٌ تجاريَّة كترجمة صَيَّاح الجهيم عن الفرنسية، وصدرت عن دار الفكر اللبناني ببيروت في جزء متوسِّط الحجم عام 1999م،
ولكنَّ الترجمةَ العلمِيَّةَ المعَتَمدة هي ترجمةُ الدكتور عبدالرحمن بدوي رحمه الله تعالى عن الإسبانية مباشرة بعنوان (دون كيخوته)، والمؤلف (سيرفانتس)، وصدرت عن دار المَدى ببيروت/ الطبعة الأولى عام 1998 في مجلَّدين.. قال الدكتور عبدالرحمن بدوي في تقديمه الروايةَ 1/21 - 22: « إن دون كيخوته رمز النبالة الساعية في خير الإنسانية، ولكنَّ وسائلَها العاجزة لا تستطيع تحقيقَ أمانيها..رمزٌ للمثل الأعلى الإنساني [لو قال: (إنه رمز) لكان أفصح؛ مِن أجل اتِّصال الكلام بالإحالة إلى معهود ذكري] الذي دائماً يصطدم بالواقع الكالح؛ فينتهي بالإخفاق..ولكن إخفاقَهُ هو عندي أعظم من كل نجاح عملي مادي واقعي لاصق بالطين..إنه القُطْب الهادي دائماً إلى مزيد من السموِّ الإنساني، الداعي إلى مزيد من العدالة والإنصاف وتقرير الحقوق..إنه صوت العدالة العليا تصرخ في عالم حافل بالمظالم، ولا عليه أنْ ظل صوتاً يصرخ في البّرِّيَّة؛ فإنَّ هذا النداء (حتى لو كان خافتاً جداً) تطغى عليه كل أصوات الظلم والنفاق والخديعة والوضاعة والملق والدّسِّ والوصولية والإمعية): سيظل دائماً العلامة على نُبْل جوهر الإنسان رغم خساسة أفعاله ودناءة أطماعه [قال أبو عبدالرحمن: (على الرغم من): هو الصحيح في مثل هذا السياق]..والإنسانية لم تتقدم على مدى الزمان إلا بفضل نماذج قليلة من أمثال دون كيخوته تألَّقت في سِمائها الملَّبدة بغيومٍ في لحظاتِ صحو وصفوٍ نادرة.. وإذا كان النجاح في واقع الحياة من حظ من يسلكون مسلك (سنشو بنثا): فتبَّاً لهذا النجاح الوضيع الدَّنِيءِ، بل تباً للإنسانية كلها إن صارت كلها من نوع (سنشو بنثا) وعدمت كل من دون كيخوته».
قال أبو عبدالرحمن: يعني عُدِمَتْ كل الإنسانية غير دون كيخوته؛ وذلك أسلوب متلعثم..
و(سنشوبنثا) أحد أبطال الرواية، وهو خادم (دون كيشوت)، وهو الرجل الواقعي؛ ولذيوع هذه الرواية عُني بها المسرح والسينما.. قال الدكتور هاشم حمادي في تقديمه مسرحيةَ (دون كيشوت) من تأليف ميخائيل بولجاكوف ضمن إبداعات عالمية التي تصدر في الكويت ص 7: « ثمة قراءات مختلفة لدون كيشوت في المسرح والسينما: بعضها يُركِّز على الجانب المأساوي، وآخر على الجانب الكوميدي، وثالث على الجانب الساخر في شخصية البطل المعروف..لكنَّ بولجاكوف جمع بين هذه الجوانب الثلاثة في كل واحد؛ فجاءت شخصية (دون كيشوت) عنده من نوع جديد وإن كانت المسرحية مقتبسة عن رواية (سيرفانتس) الخالدة «.
قال أبو عبدالرحمن: الراجح عندي إن لم يكن ذلك يقيناً: أنَّ مؤلِّف الرواية (سرفانتس) قد عاش أشياءَ مماثلة أو مقاربة من حُلْم اليقظة؛ فأبدعها خياله الفني، فتجلَّت في بطل روايته (دون كيخوته)، ولا عجب في ذلك؛ فأحلام اليقظة من سُنَّة الله الكونية في حياة أكثر البشر، وهي الأمانيُّ التي وردت في سجالٍ بين عَبيد بن الأبرص وامرئ القيس؛ وذلك السجال يُسمَّى وما ماثله بالأوابد، ومفردها آبِدة، وقد روعي فيها معنى البقاء والخلود، ولها عند العرب عدد من المعاني؛ فالأوابد الوحوش التي لا تموت في العادة إلا حَتْف أنْفها بخلاف غيرها مِـمَّا يُفْترس؛ فكأنها اتَّصفت بطول العمر، وهكذا الحيَّة آبدة، والآبدة الداهية؛ لأنه يبقى ذِكْرها على الأبد، والأوابد الشُّرَّد من قوافي الشعر كنايةً عن جيِّدِ الشعر الذي يتردَّد صداه في الآفاق على الأبد، ومن هذا المعنى جعلوا الألغاز والمحاجاة أوابد؛ لأنها من شوارد الفكر؛ فإذا اقْتُنِصتْ بقي الاحتفاء بها إلى الأبد..
وهذا السجال ضمن ألغاز جاء في أثنائها قول عَبيد:
ما القاطعاتُ لأرضِ الجوِّ في طَلَقٍ
قَبْل الصباح وما يَسْرِينَ قِرْطاساً
ضبط مُحقِّقُو الديوان يَسْرِينَ بفتح ياء المُضارعة عليهم، وأحالوا ضمير (يسرين)، والصواب عندي أنها بالضَّمِّ يُسْرين، والقرطاس كما قال ابن الأعرابي: الناقة الفتيَّة الشابة [راعوا فيها صفاءَ القِرطاس، وهو الورق الذي يُكْتَب فيه وَيُصْنَع من الشجر، وأجوده الكاغَد يُتَّخذ من نبات البَرْدِيِّ]؛ فأجاب امرؤ القيس بقوله:
تلك الأمانيُّ يَتْرُكن الفتى مَلِكاً
دون السماء ولم ترفَعْ له راسا
فحديث النفس يشمل الأمانيَّ التي ترفع الإنسان عن قدره ولا تكون إلا في اليقظة، وهذه الأوابد لا تثبت عن عَبيد وامرئ القيس؛ وإنما هي من وضع الأخباريين،ولكنْ لها دلالتُها التاريخية؛ لأن الوضَّاعَ ذكي، لا يَضَعُ إلا ما يُناسب ما هو معروف في حياة الشاعر، ولأن الأحاجي والملاحِن معروفة عند العرب ذكرها ابن دريد وغيره مِن اللغويين؛ فالعرب يتسَلَّون بها في سَمَرِهم، ويقطعون بها أسفارَهم في سُرَى الليل، ولا تزال من إبداع الأميين والعوامِّ إلى هذا اليوم.
وأحلام اليقظة لا تكون سيِّئَةً دائماً إلا إذا لازمت المَرْءَ مدى حياته؛ فأحدثت له ازدواجَ الشخصية؛ بل منها ما ينتهي بإفراغه أدباً فنياً مقروءاً كما فعل (سرفانتس)؛ فكان ذلك خيراً للفن الأدبي، وقد كتبتُ على نَسَقِ (دون كيخوته) قصةً قصيرة من أحلام يقظتي الحقيقية، ونُشِرت بمجلة الفيصل بعنوان (الحياةُ من الحيَّة)، ولم تُثِرْ أيَّ صدى، بل ربما ظنَّ ظانٌّ أنها من الهلوسة؛ لأنه لم يُقارن بين دلالِتها، وحالِ كاتبها..ومن أحلام اليقظة ما هو نُبْلٌ، وهو مما يُثاب عليه الإنسان بأن يكون عارضاً في مُناسَبَته غيرَ ملازمٍ حياةَ الإنسان كمن يقرأ سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسِيَر أصحابه؛ فيمرُّ بموضع عِبْرةٍ وَنُبْلٍ وشجاعة وتضحية، أو كلاماً شريفاً أو ذكِيّْاً فابتسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتخطر له أمنيةٌ مماثلة يَوَدُّ أن يكون بطلَها،وأنه عاشها في ذلك المشهد التاريخي الكريم؛ فهذا شيء يُؤْجر عليه، ولا يضر أن تتكرر الأمنية في حياته ولا تلازمه حتى لا يعيش في الأماني التي قد تَضُّره دنيويّْاً، وهذه الأماني قد تتسرب في كتاباتِ ذي حلم اليقظة من غير ما يشعر كقصة رويتها في مقالة لي بعنوان (ابك على خطيْئَتك يا عبدالله) عن عامي يسمع في المسجد بعد صلاة العصر درس الإمام عن ثراء ميزانِ الحسنات، وبعكس ذلك أن ميزان السيئات ضئيل جداً أمامها، وكان شيبةُ الحمد العامي يتلفَّت يميناً وشمالاً يُغالب ضحكةً امتلأ بهاشِدقُه، ثم أطلق ضحكة بعضها مِن مَنْخَريه وهو يقول: ماذا بقي للغني الحميد ؟..ثم طأطأ باكياً وهو يقول: (بقي له أنه الغني الحميد)؛ فهذه القصة لا أَصْلَ لها، وإنما هي أمنيةٌ تَتَلَجْلَجُ في خاطري أن يكون لي هذا الموقف فأنال زُلفى عند ربي..وفي هذه الأعوام الثلاثة طحنتْ المسلمين الأحداثُ؛ فَعَظُم الإشفاق على هُوِيَّتهم، وتأزَّم الوجل من مخاوف المستقبل، وإنه ليعتريني مثلُ أحلام (دون كيخوته) أن أنالَ لسانَ صدقٍ في الآخرين: إما بقوة بدنيَّة فَعَّالة، وإما بمعايشة إعجاز من الله على يدي يفرج به الله همومَ الأمة..وإني لأستحيي من ذكر هذه الأمانيِّ، فأبقى في لَذَّة، وأبقى مُتَطَلِّعاً لهذا المدَد كأنه من أحوال الواقع، ولولا الله ثم حِرصي على وِرْدي، وتنفيري أوكار الشياطين بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقراءتي الزهراوين (سورتي البقرة وآل عمران) لكنتُ (دون كيخوته) الآخَر، ولكنتُ مثلَ كثيممن خُيَّل لهم الجذبُ، وكَشْف الحُجب؛ بل ادعاءُ النبوة؛ فقد جاءهم الخَلل من هذا التخييل؛ فالشيطان لعنه الله حاذق ماهر في صُنْع أمانيِّ الغرور، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.