سمر المقرن
يتذبذب مفهوم الصداقة في الثقافة العربية، فنجد معانيها والدخول في عمقها أمرا لا يستطيع إتقانه أي شخص، بل قد لا يجده حتى لو بحث عنه. وأظن أن كثرة الأقاويل التي تصدرت أقاويل وكتب الصداقة العربية لها دور كبير في تسطيح هذه العلاقة السامية، وجعلها مقتصرة على مصالح محددة، لذا كثيرًا ما يقال إن صداقات اليوم هي علاقة مصلحة، مع العلم أن كل علاقة جميلة ونبيلة في هذه الحياة تقوم على مصالح ومنافع يستفيد منها الطرفان، حتى علاقة الأم بابنها هي علاقة مصلحة وتبادل منافع فهي تمنحه الحب والحنان وهو يمنحها مشاعر الأمومة.
كتب الثقافة العربية تنظر إلى علاقة الصداقة بشكل سلبي، فمثلاً أبي حيّان ألّف كتابًا كاملاً يقع في أكثر من 400 صفحة، يرفض فيه وجود معنى الصداقة، وبالنهاية أي مثقف أو مفكر أو كاتب حتى وإن كان لديه القدرة على نقل حياة ومشاعر وإنسانيات الآخرين، إلا أنه لا يمكن مهما حاول أن يتجرّد من تجربته الشخصية، لذا أتوقع أن أبي حيّان هو قد عاش بنفسه هذه التجربة المأساوية في عدم قدرته على تكوين صداقات بالمعنى العميق لمعانيها، وقد يمر كل إنسان بهذه التجربة ولكن هذا لا يعني أن الناس بهذا القدر من السوء، إنما هو شخص أو أشخاص يكمّلون بعضهم بعضًا، قد يفتح القدر نوافذه فنجدهم في حياتنا، وقد يمر العمر ولا نجدهم، تمامًا مثل الحب، أنا مؤمنة أن لكل شخص في هذه الحياة شخصا واحدا فقط، خلقه الله -عز وجل- ليكون حبيبًا وقد يجده أو قد تنتهي حياته دون أن يجده، هذا لا يعني أن الإنسان الذي لم يجد نصفه المخلوق لعشقه ألا يمر بتجارب إنسانية فيها مشاعر حب وود، إنما لا يصل إلى مرحلة العشق إلا مع هذا الشخص فقط، الذي قد يلتقيه في الحياة وقد لا يلتقي به.
الصداقة أراها مثل فكرة الحب، فقد يمر على حياتنا أصدقاء كثر إنما الصديق الحقيقي قد نلتقيه ويتساهل القدر في الاقتراب وقد لا نلتقيه، وهذا أيضًا لا يعني أن الإنسان منّا إن لم يلتقِ بهذا الشخص فلن يكّون صداقات، إنما صداقات لا يمكن أن تدخل إلى العمق ليشعر أنه وإياه إنسان واحد.
ما زلت أؤكد أن الشعوب تتشكل ثقافتها من جذورها الحضارية وعطاءات قدمائها الفكرية، وللنظر مثلاً إلى سمو العلاقة الإنسانية في الصداقة عند اليونان، أظنهم يختلفون كليًا عن أي شعب آخر من ناحية تقديسهم لهذه العلاقة الإنسانية، ولنعرف السبب علينا أن نعود إلى عطاءات الفلاسفة الإغريق في مفاهيم الصداقة، فالثقافة الإغريقية خرجت برؤية الصداقة أنها حالة انجذاب بين شبيه وشبيه مع أن أرسطو خالف هذه الفكرة لأنه يرى أن الشبيه لا يحتاج إلى شبيهه.
بغض النظر كلا الفكرتين وغيرهما من أفكار فلاسفة اليونان إلا أنها تتفق على أن الصداقة تتعارض مع كل ما يجذب الكراهية. من هنا أنا متأكدة أنها حالة حب عميقة وطويلة المدى، ومن يعرف معنى الصديق الحقيقي في حياته، لن يعرف أي شعور بالكره ولا بالحقد ولا البغضاء أو الضغينة.. ابحثوا عن الصديق الصديق وتخلصوا من كل المشاعر السلبية التي قد تُعكّر صفو حياتكم.