د. فوزية البكر
يُنظر إلى البليونير البريطاني جون كاود ويل كأحد أكثر رجال العالم ثراءً، وهو من أولئك الذين تمكنوا من صنع ثرواتهم بنفسهم من خلال قدرته على توقع ثورة التلفونات الجوالة منذ الثمانينيات، حيث بدأ بشراء بعضها في الحراجات العامة ومحاولة بيعها بشكل متفرق، وهو في ذلك يقول:
إن أول 26 تلفوناً نقالاً اشتراها اقتضت منه أكثر من ثمانية شهور ليبيعها، لكن هذا لم يفقده قناعته بتوجه العالم كله نحو التلفونات الجوالة، وهو اليوم يملك بليوني جنيه إسترليني، بل ربما أكثر، وتقول عنه الويكبيديا بأنه رقم 13 كأغنى رجل في بريطانيا، ورقم 464 كأغنى رجل في العالم.
لماذا تعنيني ثرواته المخيفة التي جعلته يبني سكة قطار داخل قصوره حتى يتمكن هو وأصدقاؤه من الدوران حولها (؟؟!).. لأنه ببساطة قرر التخلي عن كل ذلك واستبداله بالأعمال الخيرية.
قام كاود ويل ببيع مجموعته والكثير من شركاته بعد أن تحقق له من الثروة، ما لن يتمكن من صرفه طوال حياته، وهو إلى جانب ذلك قرر توزيع نصف ثروته على الجمعيات التي يرعاها وخصوصاً مؤسسته الخيرية المسماة كود ويل للأطفال والتي عيَّن نفسه رئيساً لمجلسها وهدفه كما صرح بأن يتأكد من أن كل قرش يضعه هو أو أي أحد من المحسنين في هذه الجمعيات سوف يذهب للغرض الذي وضع من أجله.. ولأنه لم يكتف فقط بإعطاء المال لهذه المؤسسات الخيرية، بل خصص منذ أعوام جل وقته لإدارة نشاطات العديد من هذه الهيئات الخيرية وبخاصة مؤسسة الأطفال، لذا تمكنت هذه المؤسسة تحديداً ومنذ إنشائها عام 2003 وحتى العام 2013 من تحقيق 27 مليون جنيه إسترليني.
هل يمكن لنا تصور فعل ذلك أو حتى جزء منه من قِبل أغنيائنا وهم كثر والحمد لله؟؟
أشك في ذلك!
هذا لا يعني أن الأغنياء لا يحسنون.. على العكس من ذلك فهم أولاً يؤدون واجباتهم الدينية عن طريق دفع زكواتهم، كما أنهم يتبرعون للمحتاجين والفقراء إن علموا بهم، ويشتد ذلك في مواسم معينة مثل شهر رمضان المبارك لكن ما يدفعونه لا يتجاوز نزراً يسيراً من ثرواتهم الهائلة أو من مصاريفهم المليونيرية.. قد يقول قائلٌ إن من حق الإنسان أن ينعم بثروته ما دام رب العالمين أنعم بها عليه وهذه حجة منطقية، لكن فكرة كاودويل أن الفروقات الطبقية الهائلة بين أفراد المجتمع الواحد ليست من مصلحة المجتمع نفسه، فكما أن الله خلق البشر طبقات مختلفة وأنعم على البعض بالمال، إلا أن زيادة الفروقات الطبقية والمالية بين أفراد المجتمع تؤدي إلى تصدع هذا المجتمع، وإذا كانت فكرة المجتمعات الرأسمالية هي العمل الجاد والمكسب الحلال بما يتوافق مع القوانين، فإن زيادة الفروقات في الدخل بين شرائح المجتمع تشق تماسك هذا المجتمع، وتولد الضغائن والحرمان وتزيد من حدة الصراعات داخله.. لذا رأى هذا البليونير البريطاني أن لا طريق لسد هذه الفجوة إلا أن يقوم هو وأمثاله من الأغنياء (خذ بيل جيت كنموذج) بإنشاء مؤسسات خيرية يخصصون لها معظم أموالهم ثم يعملون بداخلها لتنمية مواردها كما فعلوا مع شركاتهم الخاصة، حتى تتمكن هذه الجمعيات من الوصول إلى أكبر عدد من أفراد الشريحة التي تخدمهم، وهذا كما يرى (إضافة طبعاً إلى دفع الضرائب للحكومة) سيؤدي إلى تحقيق بعض التوازنات الاجتماعية والطبقية داخل المجتمع؟
ما نشهده اليوم في مجتمعنا هو زيادة هائلة في الفروقات الطبقية بين الناس، حيث تجد أشد الناس ثراء مقابل مئات الآلاف من المحتاجين والفقراء الذين لا يكاد دخلهم يسد رمقهم، فكيف بدفع إيجارات منازلهم أو مصاريف أطفالهم ومدارسهم أو علاجهم في حالة مرضهم... إلخ من شؤون الحياة التي لا تنتهي.. ولكي نتلمّس ذلك مباشرة لنفكر فقط في أسعار الأراضي داخل المدن الكبيرة أو مصاريف إنشاء سكن خاص لخريج جامعي حديث الزواج، أو لنتحدث عن تكلفة الزواج نفسه والتوقعات الاجتماعية المرتبطة به (من مصاغ للزوجة ومنزل وأثاث... إلخ). مصاريف باهظة لا يمكن أن يتحملها دخل واحد لموظف جديد مما يُولّد شرائح ضائعة لديها التعليم لكنه لا يسد رمقها أو يلبي احتياجاتها الأساسية، فما العمل؟
أعتقد أن الأغنياء متى آمنوا جدياً بفكرة العمل التطوعي داخل مؤسسات خيرية يُنشئونها ويتفرغون لها ويدفعون لها من حر مالهم المبالغ المجزية التي تكفل تحقيقها لأهدافها، فستتحقق بعض من العدالة الاجتماعية، إضافة إلى الإشباع والرضا النفسي الذي تحققه مساعدة الآخرين والتي ذكر كودويل في مقابلة معه إلى أنها متعة لا تعادلها حتى متعة كسب المال التي هي في العادة المحفز الأساس لجمع مزيد ومزيد من المال لدى الكثير من الناجحين والأغنياء.
إن مساهمة الفرد (القادر بماله أو بنفوذه) في حل مشكلات المجتمع هامة جداً، ولذا فليس صحيحاً هذا الاتجاه الذي ينتشر في ثقافة مجتمعنا بأن كل شيء هو مشكلة الحكومة التي هي أبونا وأمنا وبنكنا، ومن ثم فهي من يجب أن يفكر في حلول للفقراء مع التمويل والتنفيذ.. هذه الفكرة خطرة جداً، فالمجتمعات لا تقوم فقط على الخدمات الحكومية، بل يعمل الأفراد والمؤسسات الخيرية المختلفة لدعم نشاطاتها والتخفيف من أعبائها من خلال العناية بمختلف الشرائح المحتاجة، وذلك ليس بالمال فقط، بل بالوقت والإدارة والتدريب... إلخ.
فكرة العمل التطوعي الخيري ليست فكرة باذخة للتخفيف من الشعور بالذنب تجاه المحتاجين من قِبل الموسرين، بل هي عمل اجتماعي أساس، وخصوصاً في المجتمعات المسلمة التي قال عنها نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه بأن (المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا).. وعسى أن نكون كذلك كما أمرنا الكريم بذلك.