د. حمزة السالم
غالب الناس، تلدهم أمهاتهم بقدرات عقلية عالية، إلا أنها قد كُتمت وحُجرت منذ الطفولة، فنمت أعضاء الإنسان الحيوانية فأصبح شابا يافعا، بينما لاتزال قدراته العقلية محبوسة في مهدها في أصل العقل الإنساني، لم تنم ولم تمت. فإن جاءتها فرصة التحرر فخرجت: نمت وتطورت. وإن لم يوافقها الحظ ولم تُسخر لها الأسباب، ماتت أو تشوهت أو أُعيقت فما عادت قابلة للنمو.
- وفي اعتقادي، أن سر تفتح القدرات العقلية وخروجها من محاجرها لبناء العبقرية الإنسانية يتكون من عمود و ركنين وشرط الأساس ومقياس االصلاح التطبيقي. فالإنسان يولد مزودا بعمود الفكر مفطورا عليه، ولكن ما نفع العمود دون الأركان، إلا نفعا محدودا. ولا ثبات لأركان بلا أساسات، ولا اكتمال لبناء إلا باكتمال جُدره وسقفه.
* فأما عمود الفكر فهو المنطق الصحيح الذي لا تختلف قواعده باختلاف الوسائل والطرق. ولا يتغير بتغير المعطيات واختلاف الحيثيات، فقواعد المنطق ثابتة أبدا، كالرياضيات مُجردة عن العواطف والثقافات والتصورات.
ولا فكرنافع لمنطق مجرد عن عاطفة وتصور وثقافة، والتجرد شرط المنطق، وإنما العواطف والمعطيات والحيثيات تدخل على المنطق المُجرد لتُغير النتائج المنطقية، لكنهالا تبدل القواعد المنطقية المجردة. (ولذلك فكل اعتقاد يتجاوز قواعد المنطق، فهو ليس بفكر بل إيمان مطلق كالإيمان بالغيب، ولهذا كان الإيمان بالغيب هو جوهر الأديان وعمادها ومحورها ومنتهاها ومبتداها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه).
-وأما رُكنا الفكر، فهما ركنان متلازمان، تلازم اعتماد وتلازم انعكاس. فالركن الثاني يعتمد على الأول. والركن الأول بدون وجود الركن الثاني، يعكس النتيجة، فيجعلها انغلاقا كاملا للعقل، بدلا من تحرره وانطلاقه.
والركن الأول هو أن تنظر لكل أمر تفهم لغته بعين الاتهام، وبصيرة الانتقاد. فالأصل هو النقص أو الخطأ في كل حديث أو عرض أو رأي أو دراسة. فأحدها حاصل لا محالة. فالنقصان في عمل البشر حقيقة كونية لا بد منها، والكمال مستحيل إلا على الله. وأما الركن الثاني، هو أن تعود فتبحث في الأمر المطروح -باستقلالية (فلا تبحث عما يوافق رأيك وهواك) وبمنطقية كاملة فتستجلب التحدي لمنطقك - سواء أكان دراسة أو رأيا أو اعتقادا أو خبرا. فتقرأ فيه ما يجعلك تلم بأولوياته وقواعده العامة، ثم تقارن وتضارب بينها وبين معطيات الامر الذي بين يديك وبين أشباهه ونظرائه مما وجدت، باحثا عن الفروق المُطّردة، أو مكتشفا للمتوافقات الجامعة. فإن لم تجد خطأ في الأمر المعروض عليك، فابحث عن مواقع النقصان فيه، وكيف يمكن تحسينها وتطويرها، فسوف تجد ولامحالة إن بذلت جهدا.
وهذه عادة ما تكون مُتعبة جدا في البداية ومُستهلكة للوقت والجهد. لكن ومع التكرار تصبح جِبلة لطريقة تفكيرك، فلا تعد بعد فترة بحاجة للبحث الكثير إن كان موضوع الامر مما لا تعرف فيه. فالبحث لتحصيل مفاتيح علم تخصصي في أمر معروض عليك هو مرحلة مؤقتة، لاستخراج قدراتك الفكرية. فالبحث في تلك المرحلة، مجرد أداة، كالمسحاة والمعول التي تستخدمهما لاستخراج قدراتك الفكرية من محاجرها. فمتى خرجت، يصبح تقييم الطرح بعد ذلك أمر جِبليا، وبالتالي يتحصل العلم الضروري لك من مساءلة صاحب الطرح إن كان جديرا بطرحه، أو ببحث بسيط لا يستغرق ساعات احيانا، رغم كونه علما جديدا عليك.
- وأما الشرط الأساس النظري التعليمي فهو ذا شقين، شق يتعلق بالأمر المطروح وشق يتعلق بالشخص نفسه. فشرط تحصيل المعرفة التواضع لها لكي تكسبها، وإلا جلست العمر جاهلا. وشرط استخراج المعرفة شكر المعلم، وحفظ الفضل له، لأجل الوفاء والعدل ولأجل حثه على المزيد. هذا من جانب نفسك. واما من جانب الامر المبحوث فيه فإن هذا هو ما يدفع الطرح للتقدم والفكرة للتطور. والمشكلة المستأصلة عندنا هي عدم المضي للأمام، بسبب دفاع صاحب الفكرة المُعدلة أو المُصوبة عن فكرته، رغم ظهورخطأ منطقها، أو ظهور اتجاه مطور لها. أو الروغان بتحوير الموضوع لاتجاه آخر، لتجنب الشخص الاعتراف بخطئه مثلا. فتظل الامور تدور في حلقة مُفرغة لا تخرج منه، مرة تتعرقل بالدفاع ومرة بالتشتيت، فنحن نراوح أبدا في طروحاتنا ونقاشاتنا في مجالات انسانية كثيرة.
فمتى استطاع الانسان أن يخلع عن عقله الاستسلام الفكري للخبير والمختص، وللجمع والمجتمع والثقافة، واصبح ينظر لكل الامور نظرة ناقدة، ثم أتبع هذا بالبحث ان كان لا يملك العلوم الضرورية، والتزم بشرط المعرفة فاعترف بالخطأ وسجل الفضل لصاحبه تقدمت الطروحات للأمام، وخرجت مقدراته الفكرية من محاجرها، فسرعان ما يعتاد عليها فتتفجر عبقرياته الانسانية التي ما هي في الواقع إلا خصال عامة في بني البشر كلهم لم يحسنوا هم في تطويرها، أو قد ظلمهم مجتمعهم بوأدها أو تشويهها أو إعاقتها في مهدها.
- وبين السفسطائية والنقد المنطقي الفكري النافع خيط رفيع، وإن عظم الفرق بينهما. فلم أجد في السفسطائية امرا نافعا، الا عموم فكرتها، وهو عدم أخذ الامور كمسلمات بل كل شيء محتمل، ولكنهم وقفوا هنا، فأصبحوا كالحمير عقولا وفهوما. فالسفسطائية تستخدم المنطق في إثبات الشك، ثم تقف عند التشكيك فلا نفع ولا منفعة. وأما النقد المنطقي الفكري فيستخدم الشك لتحفيز المنطق لاستخدامه في إيجاد الحقيقة أو تطوير الحل أو الرأي أو القرار. فمن أجل عدم الوقوع في فخاخ السفسطائية، فلا يُطرح فكر ولا فهم الا بمثال تصويري تمثيلي غير مجرد، أو بشاهد معلوم معروف، فلا ينفع طرح عقلي إلا أن يثبت منطق نفسه أو فهم صاحبه له، عن طريق تصويره حيا بأمثلة يعجز الآخرون ان يخرقوا منطقه بمثال لا ينضبط مع منطقه، أو أن يدعمه بشواهد معلومة جامعة بالاتفاق أو الاختلاف، لا يستطيع المناظر الاتيان بشاهد ينقضه.
فأي دعوى أو رأي أو منطق دون مثال توضيحي أو شاهد واقعي، ما هو إلا منطق الفلاسفة السفسطائيين أوجدل جدلية البيزنطين أوغطاء لجهل المتعالمين والمتحذلقين.، والله أعلم.