محمد أبا الخيل
في العصر الذهبي للدولة العباسية نشط التدوين وتعددت مصادر المعرفة وتنوع الفكر وتفتق الإبداع العلمي والثقافي، وكل ذلك كان في إطار العقيدة الإسلامية، تلك العقيدة الخلاقة المتسامحة، التي لو لم تكن كذلك لربما خسرت البشرية قروناً من الحضارة والتقدم، فالعقيدة الإسلامية كانت بسيطة في أسسها واستحقاقاتها؛ لذا سهل على الناس قبولها والاعتقاد بها، ففيها مساحة كبيرة من الحرية عندما يتعلق الأمر بتفاصيل المعيشة والسلوك، فالمسلم لا يحتاج إلى أن يكون تابعاً لفقيه أو كاهن حتى يطمئن لعلاقته مع الله، كل ما يحتاج إليه هو أن يكون صادق الإيمان بالله مستجيباً لمتطلبات الإسلام الخمسة، وعندما يخطئ أو يذنب بطبيعته كإنسان فما عليه إلا أن يستغفر صادقاً في علاقة مباشرة مع الله دون وسيط، ودون أن يبوح بما اقترف لأحد، والله يضمن له المغفرة. لا يوجد دين على الأرض بهذه البساطة. ومع ذلك بعد أن استقبل الإسلام المسلمين الجدد المتحولين من ديانات أخرى اعتادوا في دياناتهم السابقة على تبعية للكاهن وانقياد تام لتوجيهاته وسلطته جلب هؤلاء المتحولون للإسلام بعضاً من ممارساتهم ومعتقداتهم السابقة؛ فكثر الاستفتاء عن مستجدات الأمور، وكثر التأويل، ونشط البحث عن الأحاديث النبوية أو تلك التي تروي سيرة الصحابة في صدر الإسلام لاستنباط تفاسير أو إجابات للمستفتين. هذه هي البيئة التي سادت في ذلك العصر، والتي أفرزت توجهات متعددة في فهم الإسلام كمعتقد وكممارسة، فظهرت كثير من الملل، وتبلورت المذاهب، وتكونت أسس الطوائف التي لا يزال بعضها يعاصرنا، وبعضها قضى وانتهى وذاب في طوائف من بقي. بعض هذه الطوائف شطت كثيراً عن أسس الإسلام، ومالت كثيراً لدمج معتقدات قديمة ضمن مضمونها الفكري بحيث أصبحت ديانات أخرى، والبعض اقتبس من المعتقدات القديمة أو أضاف معتقدات جديدة، ولكن بقيت أسس الإسلام هي محور عقيدتها، وقليل بقي على صيغة الإسلام الأصيلة.
نحن اليوم نعيش عصراً ذهبياً، تشرق به حضارتنا من جديد؛ فالتعليم ينتشر، والفكر ينشط، والإبداع يتجدد، والإعلام يصبح وسيلة لنشر ذلك وتمكينه، وتقنية الاتصال والتواصل تقضي على عوائق الزمن والمكان ومحدودية الانتشار, بحيث أصبح الفرد قادراً على مخاطبة الجموع وهو في قعر داره، وبات متلقياً لكل ما يحدث على الأرض من معرفة وعلوم وأخبار وأفكار دون وسيط. هذه بيئة اليوم، التي جعلت الفرد مجرداً من كل حصون الحماية لفكره وقناعاته، وبات أمام عقله تحدٍّ كبير، يتمثل في قبول أو رفض ما يتعرض له، أو إيجاد صيغة تعايش بين مضامين فكرية متضادة أو متناقضة؛ لذا أفرز هذا الواقع توجهات فكرية جديدة داخل المكون الإسلامي. وللأسف، كثير من هذه الإفرازات برزت في صورة رفض للواقع، ومحاولة تغيير قسري واستجلاب للتاريخ وصراعاته.
إنَّ التحدي الذي يواجه المسلم اليوم في كل بلاد الدنيا هو قبول المسلم الآخر المختلف في مذهبه أو طائفته. فمع أن الإسلام في أصله دين تسامح واحتمال لغير المسلمين، بل هو دين حماية وعدالة في شقه المدني لكل من ينضوي تحت دولة الإسلام مهما كانت عقيدته ومذهبه، إلا أن المسلمين اليوم بصورة شبه عامة فقدوا تسامح الإسلام فيما بينهم، وكونهم من طوائف مختلفة، وبلغ بهم الأمر لحمل السلاح وقتل الآخر, ونسوا أو تناسوا أن الإسلام الذي أرسل به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو دين محبة ودين تسامح، ودين يحتمل الاختلاف في التفاصيل إذا ما حفظت الأصول، وهي سهلة وبسيطة، ويكاد يجمع كل المسلمين عليها، فلِمَ يتقاتل المسلمون حول التفاصيل؟
ربما أن ما يحمل المسلمين على قتال بعضهم ليس الخلاف في تفاصيل الممارسات الدينية، بل هو التوظيف السياسي للدين، فالسياسة هي إدارة المصالح الدنيوية، والدين هو ممارسة الحياة لضمان رضا الله ونيل جائزته في جنات النعيم، ومن يخلط هذه بتلك فقد جعل مصالح الدنيا في مرتبة جائزة رب العالمين، وهذا ليس من أسس الإسلام بنص قول الله تعالي {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى}، فكل صراعات المسلمين اليوم بين بعضهم هي صراعات حول مكتسبات دنيوية، ومهما لبس البعض ذلك وادعى أنه يقاتل من أجل إعلاء كلمة الله وتحقيق وعده فلن نقبل ذلك؛ إذ نرى الاستئثار بالغنائم والسبايا والتجاوز في كل ما هو إنساني.
إن إعلاء كلمة الله في هذه العصر لا تتحقق بسفك الدماء وقتل الناس وتهجيرهم من أوطانهم، بل هي تكمن في جهاد العقول وتحقيق المثالية الإسلامية في السلوك والتسامح وتحقيق القدوة الصالحة، فإنسان هذا العصر متعلم وعاقل ومدرك وحر وممكن من وسائل التواصل، وسيكون من السهل مخاطبة عقله وتنويره بالإسلام الصحيح، عوضاً عن استعدائه بعرض دموي مخيف.
اسأل الله أن يعز الإسلام بما هو أهل له، وأن يهدي ضال المسلمين، ويعز بلادنا، ويحيطها بالأمن والرعاية.