د.إبراهيم بن عبدالله السماري
تظل المعرفة مقياساً دقيقاً تُستمطر به ديمة التفوق، ويُستبطن بواسطته المنجز الحضاري في كل مجال وفي كل عصر، وهذه الحقيقة تؤكدها نواصع التاريخ؛ والتربية والتعليم ميدان من أهم ميادين المنجزات الحضارية اليوم،
والمشاهد في عصرنا الحاضر أنك لن تجد شعباً متقدماً في الحضارة والصناعة والاقتصاد إلا وتجد السر في تطور ونهضة أنظمة التربية والتعليم في ذلك المجتمع، وتوفير الأدوات البحثية، لا أعني المختبرات وحدها ولكن الأهم تحفيز العقول لتستفيد منها، أما إذا جمع النظام التعليمي بين ندرة المختبرات، وضعف تحفيز العقول، فسيبقى إنتاج المجتمع وفكره حبيس الاجتهادات والضعف.
عندما كنت أمارس الكتابة الصحفية المنتظمة كان أكبر ما يشغلني حينذاك وأكثر موضوعات كتاباتي هو هموم التربية والتعليم لاسيما ما يتعلق بالجوانب الإثرائية التربوية، وتحفيز التفكير، ومشكلات التعليم وقضاياه كالجناية على الإشراف والإرشاد التربوي في نظامنا التعليمي، وكان معالي وزير التربية والتعليم آنذاك الصديق الدكتور محمد الرشيد - رحمه الله - وحين عقدت ندوة اقتصاديات التعليم في القصيم التي جمعت مديري عموم التعليم وقيادات التعليم في المملكة دعاني معاليه للمشاركة فيها بورقة عمل، وكان مما عرضته حينذاك أن الوزارة في مختلف عصورها تصر على خطأ جسيم، وهو الإعراض عن الرجوع للعاملين في الميدان وتستهين بآرائهم برغم أنهم المعايشون لواقع حال التعليم والمتعلمين.
وقبل أيام اطلعت على قرار معالي وزير التعليم بتشكيل لجنة برئاسة معاليه وعضوية نوابه وبعض مسؤولي وزارته لتطوير أداء مدارس تحفيظ القرآن الكريم وليس في لجنته أي ممارس في الواقع أعني تحديداً من المعلمين والمعلمات، ومنشأ استغرابي هو أن مسؤولي الوزارة لم يقدموا أفكاراً طيلة عملهم السابق لأنهم بعيدون عن الميدان، أما الممارسون فلا يستأمرون وهم شهود! فهل يظن معالي الوزير أنه سينبت في أذهانهم عملية جديدة!
ولأني مطلع على بعض شؤون وشجون وهموم هذه المدارس فسأعرض لمعاليه وجهة نظر ربما تكون مختلفة عما كُتِبَ له، مع تقديري لجهود معاليه، ولحماسته في التطوير وسعيه للجودة الشاملة، وسأقصر حديثي على جانبين، الأول: الواقع التعليمي لمدارس التحفيظ، والثاني: ضعف الإشراف التربوي في إدارات التعليم ومكاتب التعليم، حيث حُوِّل الإشراف التربوي أو الإرشاد التعليمي سمه ما شئت من وظيفة فنية إلى وظيفة إدارية حجبت كثيرا من مهامه وغاياته، ويتضح ذلك من التعامل مع مدارس التحفيظ بصفة أخص.
فبالنسبة لواقع التعليم في مدارس التحفيظ فالأمر لا يسر متطلعاً لتطويره، بل يشكل عقبة كبرى أمام تطويره والتطوير الحقيقي، وليس التطوير الشكلي الذي اعتدناه من وزارتنا الحبيبة، فأي تطوير في ظل وجود أربعين طالباً أو طالبة في الفصل هو من العبث الذي لا يستساغ، لأن هذا الفصل المزدحم هو من صغر المساحة ومن حيث ندرة الأدوات التعليمية بيئة طاردة للتطوير، وأعلم أن بعض المعلمين والمعلمات يجلب أدواته معه على حسابه، وإن كان هذا في رأيي تقصيرا من الوزارة، إلا أن مساحة وازدحام الفصول في أغلب المداس لا يعينه على ذلك إذا تبرع بتوفيرها، وبرغم ذلك نطالبه بأن يكون «سوبرمان» الذي لا يُقهر. وأحيط علم معاليكم أن مقررات مدارس التحفيظ تختلف عن التعليم العام من جهتين، الأولى من حيث عدد المقررات والمواد وكثافة المواد الدينية، والثانية من حيث طبيعتها، فإذا قررت الوزارة استخدام استراتيجيات تعليمية للنهوض بهذه المدارس فعليها أن تدرك هذا الاختلاف أولاً، وأن توفر الأدوات اللازمة لمعالجته ثانياً وإلا حكم على قرارها بالفشل لاستحالة التطبيق كما حدث فعلاً؛ فالتنظير لا يصنع تطويراً حقيقياً. كما أحيط علم معاليكم بأن المعلم والمعلمة في غالب المدارس لا أقول لا يملك مكتباً خاصاً به، وإن كنت أرى أن هذا حق من حقوقه بل أقول: إنه لا يملك طاولة ذات خصوصية تجعله يخطط ويعمل استراتيجيات تعليمية ناجحة، فكيف لمن هم خارج السرب أن يدركوا مشكلات الميدان الحقيقية؟
وبالنسبة لضعف الإشراف التربوي فسأعرض لمعاليكم مشكلة حقيقية من إحدى مدارس التحفيظ الثانوية للبنات في شمال الرياض، ففي تلك المدرسة حصل أربع معلمات على إجازات فما كان من الإشراف التربوي إلا الوعيد والتهديد بالتحقيق للمعلمات الأخريات إذا لم يمتثلن لتحمل تركة زميلاتهن وإن تجاوزت طاقتهن. وبرغم أن التهديد لا يتفق مع كرامة المعلم والمعلمة من الأساس إلا أن هذا الترتيب لا يتفق مع متطلبات جودة التعليم أيضاً، فالمسؤولة في الإشراف التربوي تركز وتهتم بسد النقص بأية طريقة دون أي اهتمام بالجودة أو حتى بالمعلمة وحقها في العدل، يضاف إلى ذلك أن هذا عمل إداري وليس فنياً بأية حال. فكيف تعمل المعلمة بالجودة المطلوبة وقد ترتب عليها القيام بـ21 - 24 حصة في الأسبوع وليست كلها مادة واحدة أو مقررا واحدا، بل أحياناً أربع مواد أو خمس في صفوف ومقررات مختلفة، وكل فصل في حدود أربعين طالبة، مما يحملها عبء التحضير في كل المقررات، يضاف إلى ذلك إجراء الاختبارات الشهرية والفصلية والنهائية للدورين وتصحيح الإجابات، وتحديد مستويات الطالبات ودرجات أعمال السنة ودفاتر التحضير وملفات الإنجاز، إضافة إلى مشاركتها في النشاط وحصص الانتظار والمناوبة وتكليف المعلمة بإدخال النتائج في النظام الإلكتروني، وإن كنت أراه من عمل إداريات المدرسة، ثم كيف نطالبها باستراتيجيات تعليمية والجودة وخلافها ونحن نحرمها من المساعدة الفنية من الإشراف التربوي الذي أصبح جهة إدارية بحتة؟ وأنا لا أقرر هذا جزافاً فالمسؤولة عن الإشراف التربوي في المدرسة التي أتحدث عنها أضافت إلى الوعيد والتهديد للمديرة والمعلمات خُلقاً ذميماً وهو الكذب، فقد كتبت للمديرة أنها زارت المدرسة واطلعت على الوضع، وهي بحسب إفادة المديرة لم تفعل ذلك أبداً، إضافة إلى تجاهلها لاتصالات المعلمات لتوضيح المشكلة لها. فأي عمل تربوي نريده في ظل العلاقة المتوترة بين أطرافه، والكذب والتهديد والوعيد وعدم الاحترام.
هذا وبالله التوفيق.