د.محمد الشويعر
ملكة جليلة، كانت ذات عقل راجح ورأي صائب، خلدت في التاريخ صفحة زاهية تحدثنا عن حياتها وأعمالها العظيمة التي قامت بها خلال حكمها، فتركت أثراً حميداً في الحضارة والعمران. وأما أصلها فقيل: إنها حبشية غير أن هذا الزعم لم يلبث أن توارى، حيث ذهبت أخيراً إلى سبأ أو مأرب بعثة ألمانية
علمية برئاسة كارل يونجمان واستطاعت بعد التنقيب الطويل أن تهتدي من التماثيل والآثار إلى حقيقة ملامح الوجه، فوجد من جميع ما عثر عليه من التماثيل ما يدل على أن ملكة سبأ كانت سامية مثل العرب والإسرائيليين، وأنها كانت تتكلم لغة سامية التي هي مزيج من العربية والعبرية. ولما وليت بلقيس الملك ازدرى قومها بمكانها لما كانت امرأة، وأنفوا من أن يلي أمرهم امرأة. وبلغ ذلك عمراً ذا الأذعار فجمع الجيوش ونهض إلى بلقيس. وأما هي فلم تكن لها طاقة فهربت مكتتمة بأخيها عمرو وهما في زي أعرابيين حتى أتت جعفر بن قرط الأسدي، ثم عملت على حيلة دبرتها فدخلت على خصمها عمرو ذي الأذعار فأمر بالخمر ينادمها كما كان ينادم بنات الملوك ويفعل بهِن. فلما أخذت الخمر منه هم بها فقالت: أيها الملك سترى مني من المال أكثر ما رأيت من الحرص، وحاجتي فيك أعظم من حاجتك. وسامرته أحسن مسامرة. فألهاه ما سمع منها وما أعطته من نفسها من القرب وهي تعمل فيه بالخمر دأباً حتى علمت أن الخمر عملت فيه. فقدمت إليه وسلت مديتها من قرونها ثم نحرته. فلما مات جرته فألقته في ركن مجلسه وألقت عليه بعض أمتعة المجلس، ثم خرجت إلى الحرس في جوف الليل وقالت: يأمركم الملك بفلان أن تأتوا به. فأتوا به، وكان يتبعه أُلوف من حمير، ثم أرسلت إلى ملوك حمير وأبناء الملوك المسموع منهم والمتبوعين. فلما اجتمعوا إليها في قصر غمدان خرجت عليهم فقالت لهم: إن الملك قد تزوجني على أني برئت إليه من ملكي في حياته، وأنتم تعلمون أنه لا يولد له فلما علم مني الخضوع بحقه والاستسلام لإرادته والطاعة لأمره فوض إلي بعده ورآني أهلاً له، وأمرني أن آخذ عليكم بذلك عهداً. قالوا سمعاً وطاعة للملك فيما أراد. فأخذت عليهم أن لها الملك بعد عمرو. فلما توثقت منهم قالت لهم: هل تسمعون من الملك؟ فأدخلتهم المجلس فقالوا لها: أين الملك؟ قالت لهم: هاهو ذا وكشفت عنه. فرأوه قتيلاً فقالوا لها: من فعل هذا؟ قالت لهم: أنا ولي العهد بالملك من بعده، وهاهو قد مات وعهدي لكم لازم. قالوا لها: أنت أولى بالملك إذ أرحتنا من هذا الرجس الجائر. فوليت بلقيس ملكهم. وقالت حمير: رجع الملك إلى نجلته الأولى. ثم جمعت الجيوش العظيمة وسارت إلى مكة فاعتمرت، ثم توجهت إلى أرض بابل فغلبت على من كان بها من الناس، وبلغت أرض نهاوند(2) وأذربيجان(3)، ثم قفلت إلى اليمن.
ومن الأعمال العمرانية التي قامت بها بلقيس ورفعت مجدها إلى أبعد صيت ترميمها سد مأرب الذي كان الزمان قد أضره وخلخل أوصاله. وبلقيس هي صاحبة الصرح الذي ذكره الله في القرآن العظيم في قصة سليمان. وينسب إليها أيضاً قصر بلقيس الذي بمأرب(4)، وكان سليمان ينزل عليها حين تزوجها فيه إذا جاءها.
وكان لبلقيس حرس من الرجال وبطانة من النساء، وكان لديها ثلاثمائة وستون امرأة من بنات أشراف حمير. فكانت تحبس الجارية حتى تبلغ ثم تحدثها حديث الرجال، فإذا رأتها قد تغير لونها ونكست رأسها عرفت أنها أرادت الرجال، فسرحتها إلى أهلها ووصلتها وزوجتها وأحسنت إليها، ولا تزوجها إلا من أشراف قومها.
وإذا رأتها مستمعة لحديثها معظمة لها أطالت النظر غير متغيرة اللون ولا مستحية من الحديث علمت أنها تريد فراقها وأن الرجال ليسوا من بالها. وأما بلقيس فكانت صائنة نفسها غير واقعة في المساوي ولا غافلة عن المكارم وكانت لا أرب لها في الرجل فظلت عذراء حتى تزوجها سليمان عليه السلام.
وأما خبر بلقيس مع سليمان الحكيم عليه السلام فإنه لما أُلقي إليها كتاب وسقط في حجرها قالت: إنه كتاب كريم. وأشفقت منه فأخذته وألقت عليه ثيابها وأمرت بسريرها، فأخرج فخرجت فقعدت عليه ونادت في قومها: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ. قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.
ثم بعثت بلقيس لسليمان بهدية اختارت أربعين رجلاً لم تدع في أبناء الملوك أجمل منهم ولا أعقل ولا أرشد ثقة ولا أبعد غاية ولا أعلى صوتاً.
وأما الهدية التي أرسلتها إلى سليمان معهم فهي مائة وصيف ومائة وصيفة ولدوا في شهر واحد ممن ولدوا في ليلة واحدة، وأرسلت إليه بحق مملوء ذهباً وفضة ودراً وياقوتاً وزبرجداً أو زمرداً وختمت على الحق، وألبست الوصائف والوصفاء زياً واحداً ليظن من رآهم أنهم كلهم غلمان، وأرسلت إليه بخيل عتاق ذكور وإناث وقالت لرسلها: مروه يخبركم بفرق بين الذكور والإناث من هذه الخيل بعضها من بعض من غير أن يخبره أحد، ومروه أن يخبركم بما في هذا الحق من غير أن يفكه.
فتوجه رسلها حتى بلغوا إلى موضع لا يدركهم أحد فقال بعضهم: إن سئلتم عن شيء فعليكم بالحق الذي لا اختلاف فيه وإياكم أن يجيب كل واحد عن نفسه فيقع الخلاف فيرتاب منكم. ثم مضوا إلى سليمان.
وجمعت بلقيس أشراف حمير فقالت: خذوا في أهبة الحرب. فجمعت الجيوش واستعدت للحرب وقالت لقومها: إن هو قبل الهدية ولم يرد الحرب ودعا إلى الله فهو نبي فاتبعوه، وإن هو لم يقبل الهدية ولم يعلمنا بما سألناه عنه فهو ملك من ملوك الدنيا وأنا أعز منه وأقوى حاربناه، فما لأحد بنا طاقة، وإن كان نبياً فما لنا بالله طاقة. فلما جاء سليمان قال:
{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
ولما رجعت الرسل إلى بلقيس بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك ومالنا به من طاقة وما نصنع بمكاثرته شيئاً. وبعثت إليه أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك. ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل معها من ملوك اليمن تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة ومع كل قيل عشرة آلاف. وفي رواية أنها سارت في مائة وعشرين رجلاً من أشراف قومها ورؤسائها وأخيارها مع كل رجل من وجوه جنده وأفاضل أصحابه وقادة خيله مائة رجل ثم جمعت أبناء الملوك فقالت:
معاشر حمير أنتم تلاد الله اصطفاكم من أول الدهور وفضلكم بأفضل الأمور، وقد ابتلاكم بهذا النبي سليمان بن داود فإن آمنتم وشكرتم زادكم الله نعمة، وإن كفرتم سلبكم النعم وسلط عليكم النقم. فقالوا: الأمر إليك. وعلموا أنها شفيقة عليهم ناصحة لهم. فخرجت إلى سليمان في مائة ألف واثني عشر ألفا وبركت جميع أجنادها بغمدان وبمأرب. فآمنت به ودخل قومها في دين سليمان أفواجاً أفواجاً.
وجاء في الإصحاح التاسع من أخبار الأيام الثاني: أن بلقيس ملكة سبأ سمعت بخبر سليمان فأتت لتمتحن سليمان بمسائل إلى أُورشليم بموكب عظيم جداً وجمال حاملة أطياباً وذهباً بكثرة وحجارة كريمة، فأتت إلى سليمان وكلمته عن كل ما في قلبها، فأخبرها سليمان بكل كلامها، ولم يخف عن سليمان أمر إلا وأخبرها به. فلما رأت ملكة سبأ حكمة سليمان والبيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسقاته وملابسهم ومحرابه الذي كان يصعده في بيت الرب لم تبق فيها روح بعد. فقالت للملك: صحيح الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك ولم أصدق كلامهم حتى جئت وأبصرت عيناي، فهو ذا لم أخبر بنصف كثرة حكمتك زدت على الخبر الذي سمعته فطوبى لرجالك وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين أمامك دائماً والسامعين حكمتك، ليكن مباركاً الرب إلهك الذي سُرَّ بك وجعلك على كرسيه ملكاً لتُجري حكماً وعدلاً. وأهدت للملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطياباً كثيرة جداً وحجارة كريمة، ولم يكن مثل ذلك الطيب الذي أهدته ملكة سبأ للملك سليمان.
وقضت بلقيس نحبها بعد أن قتل ولدها رَحبْعم بن سليمان بأنطاكية بسنة واحدة. وقد رثاها النعمان ابن الأسود بن المعترف بن عمرو بن يعفر الحميري بقوله:
أخرج الموت من ذرى قصر بينو
ن(5) هماماً على الجماد يدور
حمير الخير قد رأيتك عصراً
ذا بهاء من قبل تقضي الأمور
فأراني إذا ذكرت هماماً
ملكاً قد تضمنته القبور
والقصيدة طويلة ذكرها صاحب الإكليل.
***
(1) وفي روايات: ابنة اليشرح وابنة ابلي شرح وابنة ذي شرح بن ذي جدن بن أبلي والبنة الهدهاد بن شرحبيل.
(2) نهاوند: بفتح النون الأولى، مدينة عظيمة في قبلة همدان بينهما ثلاثة أيام.
(3) أذربيجان: إقليم بفارس حده من برذعة مشرقاً إلى أرزنجان مغرباً ويتصل حده من جهة الشمال ببلاد الدليم والجيل والطرم.
(4) سد مأرب: قرية مأرب واقعة بين حضرموت وصنعاء وبينهما أربعة أيام، وأما سد مأرب فهو واقع بين ثلاثة جبال يصب ماء السيل إلى موضع واحد وليس لذلك الماء مخرج إلا من جهة واحدة فكان الأوائل قد سدوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص فيجتمع فيه ماء عيون هناك مع ما يختص من مياه السيول فيصير خلف السد كالبحر. فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا من ذلك السد بقدر حاجتهم بأبواب محكمة وحركات مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه إذا أرادوا. وأما باني هذا السد فقيل إن سد مأرب من بناء سبأ بن يَشجب بن يعرب ومات قبل أن يستتمه فأتمته ملوك حمير بعده، وقيل: إن الذي بناه لقمان بن عاد وجعله فرسخاً في فرسخ وجعل له ثلاثين مثعباً. والمثعب هو مسيل الحوض.
(5) بينون : قصر باليمن.