د.عيد بن مسعود الجهني
للإستراتيجية دور بارز ومؤثر قديما وحديثا وستبقى في العلاقات الدولية وتحدد على أساس الواقع حتميات قضايا الحرب والسلام، ومن منظور الإستراتيجية الدولية فإن كل دولة لها أسلوبها الخاص في التخطيط الاستراتيجي فمن خلاله يتعين على الدولة تطبيق ما تراه لتأمين كيانها وتدعيم أمنها واستقرارها وسط عالم سمته تعقد المصالح وتداخلها في خضم من قوى التغيير والإحلال والنزاعات والصراعات والحروب.
وحتى وقت قريب ظلت الإستراتيجية محصورة في النطاق العسكري ومع مرور الزمن تدرج هذا المفهوم ليشمل السياسة والقوة العسكرية.. ثم اتسع نطاقه في مجال أرحب ليشمل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والعسكرية.. ومن هنا أصبح علم الإستراتيجية الشغل الشاغل للقيادات العليا بل وأضحت تحتل أهم أهدافها.. وبهذا تكون الإستراتيجية بعلمها الهام قد حلت نفسها من جمودها كمفهوم عسكري واتخذت ثوبا جديدا فضفاضا يتسع للعلاقات الدولية، القانون الدولي، السياسة، الاقتصاد، القانون، الإدارة، الجغرافيا، علم النفس، التاريخ، والإعلام الذي أصبح صاحب سطوة فاعلة اليوم وغيرها من العلوم التي تلعب دورا مؤثرا في إستراتيجيات الدول.
إذا علم الإستراتيجية له دور هام اليوم في توازنات القوى على الصعيد الإقليمي والدولي.. وبذا فإن الإستراتيجية تخلق نوعا من التوازن في العلاقات الدولية وتبادل المصالح والتوازن الدولي.. وهذا جعل كل دولة في المنظومة الدولية التي بلغ تعداد دولها (193) دولة تخطط لنفسها إستراتيجيا ليكون لها مكانها في عالم اليوم.. لأن الإستراتيجية التي تطبقها كل دولة لنفسها تعكس أثرها على أمنها الوطني وسياستها الداخلية والخارجية.. ومسئولية الدفاع عن أمنها واستقرارها وسيادتها وجميع مكتسباتها بما يحقق مصالحها.والمملكة العربية السعودية لها بعد استراتيجي وأهمية اقتصادية كبيرة على المستوى الإقليمي والعربي والإسلامية والدولي فهي تطل من الشرق على الخليج العربي وتقع على شواطئه أضخم وأهم ثروة نفطية في العالم وبها تتركز حقول النفط السعودية الهامة، باعتبارها أكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط وصاحبة أكبر احتياطي نفطي مؤكد عالميا (265) مليار برميل.
ومعروف أن الخليج العربي الذي تطل عليه المملكة من الشرق في مقدمة أهم المناطق الإستراتيجية في عالم اليوم فهو أقرب طريق بري - بحري يصل بين الغرب والشرق وهو يمثل منطقة نفاذ إلى شبه القارة الهندية، فأهمية الخليج العربي الإستراتيجية تنبع من كونه واحدا من أهم المنافذ المائية في الشرق الأوسط، الممتدة بين القارات الثلاث: آسيا وأوربا وأفريقيا، ويسيطر على أكثر من (760) مليار برميل احتياطي، ودول المجلس لوحدها احتياطيها من النفط (495) مليار برميل.
ومن الغرب تطل المملكة العربية السعودية على البحر الأحمر، الذي توجد على سواحله أكبر مجموعة من الجزر السعودية والتي من أهمها جزيرة فرسان وجزيرة صنافير وجزيرة تيران.والبحر الأحمر يعد من أهم الطرق البحرية العالمية إذ إنه يوفر لقوى إقليمية ودولية إمكانات الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي، والمحيط الهندي، من هنا فالأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر في حد ذاته تأتي من حقيقة موقعه الجغرافي.
والمملكة العربية السعودية التي تغطي ما لا يقل عن 80 في المئة من مجموع مساحة شبه الجزيرة العربية لديها حدود مع ثماني دول منها اليمن حيث تشترك الدولتان مع بعضهما البعض في علاقات دينية وحضارية عميقة إلى جانب علاقة الجوار حيث تقع اليمن في جنوب المملكة العربية السعودية.
وتحتل اليمن رقعة جغرافية إستراتيجية في جنوب شبه الجزيرة العربية وتقع على مدخل البحر الأحمر وتهيمن على المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر من باب المندب، وتطل على المحيط الهندي من عدن، وتلاصق إفريقيا من جهة الصومال.
هذا البلد (اليمن السعيد) الذي يرتبط مع بلاد الحرمين الشريفين بدين الله الخالد منذ صدر الإسلام عندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال: ((يا معاذ بم تقضِ قال: أقضي بكتاب الله، قال صلى الله عليه وسلم: فإن جاء أمر ليس بكتاب الله، ولم يقض فيه نبي، ولم يقض فيه الصالحون قال: أؤم الحق جهدي، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: الحمد لله الذي جعل رسول رسولِ الله يقضي بما رضي به رسول الله)) أخرجه أحمد والترمذي.
هذا البلد الشقيق وأهله أصبحوا اليوم عرضة للطموحات الإيرانية البغيضة التي أصبحت واضحة للعيان لكل باحث أو متخصص في علم الإستراتيجية العسكرية، بل إن طهران تحاول التوسع على حساب بعض الدول العربية، وأصبح لدولة الفرس نفوذ واسع في العراق والشام ولبنان فجندت خيلها ورجلها وجماعاتها لهذا الغرض.
وبعد أن ضمنت تمددها في تلك الدول يممت صوب اليمن حيث مضيق باب المندب وموانئ اليمن وحدودها الطويلة الوعرة مع المملكة، وبذا تتضح الأطماع الإيرانية في اليمن، وانعكاسات ذلك على الوضع في بلاد الحرمين الشريفين، التي تدرك الأهمية الجيوسياسية لليمن التي تطل على ممر مائي هام (مضيق باب المندب) وغيره من الموانئ الهامة، ناهيك حدود اليمن معنا التي تعد عاملا هاما لأطماع طهران التي تعتبر المملكة منافسها (القوي) الوحيد في المنطقة.
القيادة السعودية التي ما إن حطت عاصفة الصحراء أوزارها حتى أخذت على عاتقها إعادة صياغة الإستراتيجية الخليجية العسكرية وتعديها للحفاظ على القوة التنافسية لنفوذ إيران أو غيرها، تدرك أن القوة هي أبلغ وسيلة لردع أي عدوان يهدد السيادة أو الحدود والأمن الوطني .. الخ.
من هنا كانت تتابع بدقة وشفافية متناهيتين الوضع بالمنطقة برمتها وبالطبع باليمن منذ أن انقض العميل علي صالح والحوثيين بدعم إيراني على السلطة الشرعية بذلك البلد، وبعد صبر طويل عرفت به القيادة السعودية منتظرة حلا سياسيا بين المتصارعين في ذلك البلد ودعتهم مرارا وتكرارا لتجنب الاقتتال على السلطة، والجنوح إلى السلم، لكن نهم السلطة تغلب على فكر العقل، بل إن علي صالح والحوثيين ذهبوا في غيهم بل (غبائهم) إلى تهديد حدودنا، وهذا أمر خطير وشر مستطير لابد من ردعه (بالقوة) فقالها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (عاصفة الحزم).
جاءت العاصفة بتخطيط شامل متكامل، وتحريك للقوات بفن عسكري متقدم جدا، وتكتيك غاية في فن القيادة وإدارة القوات وتحريكها ضمن خطط إستراتيجية عسكرية من توقيت للهجوم وطرق الدفاع لتسيير عمليات القتال على أفضل وجه وتحقيق أفضل النتائج.. الخ.
لم يأت هذا من فراغ إنما جاء بعد عقود من التطوير السعودي في المجال العسكري، واهتمام بالجندي المقاتل وكإنسان، من خلال دراسة العلوم العسكرية الحديثة، وكفاءاته المعنوية، وفوق ذلك كله إيمانه بالله ثم الوطن وبقضيته التي يقاتل من أجلها، والطاعة عن رضا وإخلاص، يقاتل بشجاعة وإقدام مضحيا بالنفس متمسكا بالكرامة والعزة.
وإذا كانت خدع ومكر وحيل ونوايا العميل صالح والحوثيين وطهران الخبيثة قد تكسرت على صخرة عاصفة الحزم، فإن مصيرهم كما كتب المفكر الصيني (سون نسي) في كتابه فن الحرب (إذا كان القائد متهورا فإن مصيره القتل، والجبان يؤسر، وحاد المزاح يستثار ويخطئ) وهذه كلها صفات بالحوثيين وعلي صالح وسياسات إيران.
أما نحن فكما قال الفلاسفة الذين تحدثوا عن سحر القوة بأن القوة تحد القوة، ولأن المملكة تدرك أن العالم لا يصغي إلا للقوة، ولا توجد علاقات دولية لا تحتوي بين طياتها على القوة، لذا ملكت بلادنا (القوة) العادلة لدفع الظلم البواح عن المظلومين والمتهورين، وهذه هي رسالة قوة (عاصفة الحزم) التي هي عبقرية وحكمة القيادة وبعد النظر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ليأتي بعدها القرار الحكيم من الملك سلمان بإيقاف عاصفة الحزم بعد أن حققت أهدافها، والبدء بعملية إعادة الأمل، وكل هذا ينسجم مع الإستراتيجية التي أشرنا إليها في بدء المقال.
والله ولي التوفيق