نجيب الخنيزي
يشكِّل لبنان دولة وكياناً سياسياً، يعود إلى مطلع العشرينيات من القرن العشرين المنصرم، عندما أُعلن قيام دولة لبنان الكبير في ظل حكم الانتداب الفرنسي، الذي تكرس عبر سَن دستور سنة 1926م، ولاحقاً عبر إعلان الاستقلال، والتصديق على الميثاق الوطني 1943م، الذي فرض نظام المحاصصة الطائفية بالنسبة للمواقع الأساسية في السلطتين التنفيذية والتشريعية، التي بموجبها يكون رئيس الجمهورية (مسيحياً مارونياً)، ورئيس الحكومة (مسلماً سنياً)، ورئيس مجلس النواب (مسلماً شيعياً). مثَّل الميثاق الوطني غير المكتوب محاولة للتوفيق بين حالة التشظي الطائفي، ومتطلبات تأمين الحد الأدنى الضروري للتعايش السلمي والوحدة الوطنية بين المكونات والطوائف اللبنانية كافة، وضمان انفتاح لبنان على محيطه القومي. الميثاق الذي كرس نظام المحاصصة الطائفية تجاهل عملياً المادة 95 من دستور الاستقلال الذي ينص على العمل لإلغاء الطائفية السياسية؛ وبالتالي كان المدخل لتفجير الصراعات والحروب الأهلية الدامية التي شهدها لبنان في تاريخه على مدى العقود الماضية.
العامل الرئيس في اندلاع تلك الصراعات والحروب الأهلية يعود إلى جوهر الميثاق الوطني الذي رسخ نمطين متعارضين من المواطنة؛ فهنالك المواطنة التي تدين بالولاء إلى الطائفة الدينية التي ينتمي إليها المواطن، والمواطنة التي تدين بالولاء والانتماء إلى الدولة المركزية. ومع أن نظام الطوائف اللبناني قديم، ويعود إلى ما قبل الانتداب الفرنسي، وكان يعرف في السلطنة العثمانية بالملة، غير أنه في ظل الانتداب الفرنسي ونظام الحماية الخاصة تكرس سياسياً، اجتماعياً وثقافياً في الواقع اللبناني. المعروف أن المجتمع اللبناني يمثل (موزاييك) متنوعاً من حيث التعدُّد الطائفي والعرقي؛ إذ يضم سبع عشرة طائفة دينية معترفاً بها، ونحو ثماني قوميات عرقية، بل إن بعض الطوائف تتحدث عن سمات عرقية وثقافية تختص بها في الآن معاً، مثل ما طرح من قِبل بعض الجماعات المارونية في فترات سابقة حول المجتمع المتميز والقومية اللبنانية الخاصة، وبأن المسيحيين اللبنانيين يمثلون امتداداً للحضارة الغربية (المسيحية) في المنطقة من جهة، وبأنهم امتدادٌ لحضارة عريقة ومتميزة، عمرها أكثر من ستة آلاف سنة (الفينيقيين) من جهة أخرى. وفي المقابل تجاهل قسم من المسلمين اللبنانيين حقائق وخصائص الوضع اللبناني الداخلي المعقد والحساس والقابل للاشتعال في أية لحظة، مثيرين بذلك حساسية ومخاوف القسم المسيحي من اللبنانيين، حين دعوا إلى ذوبان لبنان أو ربطه بمحيطه العربي ذي الغالبية الإسلامية. من الواضح أن الميثاق جاء بهدف الحفاظ على المصالح الفئوية والامتيازات الخاصة التي كانت مفصلة لصالح المسيحيين، أو بالأحرى الفئات المارونية منها المتسيدة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، والمتحالفة طبقياً ومصلحياً مع بعض الفئات الإسلامية النافذة. لقد جرت محاولة للإصلاح لم يُكتب لها النجاح في عهد الرئيس اللبناني الراحل الجنرال فؤاد شهاب حين تسلم مهمات الرئاسة في أعقاب الحرب الأهلية الأولى (1958)، وسعى لإصلاح النظام السياسي، باتجاه تعزيز الإصلاحات الديمقراطية وإقامة دولة القانون والمؤسسات، في محاولة لتجاوز واختراق البنية الطائفية للدولة، غير أنه جوبه بالرفض من قِبل أصحاب المصالح والامتيازات الطائفية كافة. شهد لبنان قبيل اندلاع الحرب الأهلية الثانية (1975 - 1990) تصاعداً وتنامياً للحركة المطلبية التي نظمتها النقابات والمنظمات والاتحادات المهنية، وقدمت الحركة الوطنية اللبناية التي صعّدت تحركاتها ضد سياسات ونهج الحكم مطالب ومشروعاً جذرياً شاملاً، يتضمن إصلاحات دستورية ووطنية واجتماعية واقتصادية، يأتي في مقدمتها إلغاء الطائفية السياسية ونظام المحاصصة بالنسبة للوظائف العليا، وإلغاء التمثيل المناطقي والطائفي، واعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة، والأخذ بنظام الأكثرية النسبية، وتخفيض سن الترشيح إلى 18 سنة، وهو ما تم رفضه من قِبل السلطة اللبنانية واليمين المسيحي؛ وبالتالي فإن المزاعم التي تحمِّل الظروف والمؤثرات الخارجية المرتبطة بقضايا الصراع العربي/ الإسرائيلي والوجود الفلسطيني (المدني والمسلح) والتجاوزات والتعديات التي قامت بها بعض الأطراف الفلسطينية، والتي مست هيبة الدولة، وتعالت على المجتمع اللبناني (وهي إلى حد كبير صحيحة) بأنها العامل الحاسم والرئيس في تفجر الحرب الأهلية، هي محاولة للتنصل من تبعات المسؤولية المباشرة لبعض القوى والجماعات اللبنانية التي شعرت بأن مصالحها وامتيازاتها باتت في خطر، ولم يكن مصادفة كون قادة الأحزاب والمليشيات (المسيحية) المسلحة المنضوين تحت إطار الجبهة اللبنانية يمثلون شخصيات نافذة ومسيطرة اقتصادياً وسياسياً، كما أن بعضهم تربطه صلات بمصالح خاصة خارجية، كما كانت لها مليشياتها (حزب الكتائب خصوصاً) العسكرية الجاهزة للقتال في أي لحظة، غير أنه في هذا الصدد يجب عدم إغفال الدور السلبي لمنظمة التحرير الفلسطينية وممارسات الفصائل الفلسطينية، إلى جانب عدم القراءة الواقعية والصحيحة من قِبل الحركة الوطنية اللبنانية للواقع اللبناني وموازين القوى الداخلية على الأرض، وتشابك الوضع اللبناني مع مصالح إقليمية ودولية، وهي بمجملها عوامل غير مواتية لنجاح المشروع الوطني الجذري. مجزرة الباص الذي يقل مدنيين فلسطينيين على يد عناصر عسكرية تابعة لحزب الأحرار (كميل شمعون) في 13 نيسان/ إبريل 1975 كانت الصاعق الذي فجّر الحرب الأهلية، التي كانت كل عواملها الكامنة ناضجة. لا شك أنه كان هناك فَهم خاطئ لديالكتيك العلاقة ما بين الوطني والقومي، ومحاولة إبراز البُعد القومي والإقليمي للصراع (القضية الفلسطينية) على حساب البُعد الوطني، وعدم إدراك أهمية صياغة مشروع وطني توافقي وواقعي بديل، يجمع عليه غالبية فئات الشعب اللبناني، بما في ذلك القوى اليمينية والفئات المسيحية اللبنانية.
أولوية العوامل الداخلية في تفجُّر الصراع والحرب الأهلية اللبنانية لا تنفي أن لبنان تحوَّل عملياً إلى ساحة مواجهة بين القوى والأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل استفاد لبنان من دروس الصراعات والحروب الأهلية على مدى تاريخه الحديث، وبغض النظر عن العناوين أو طبيعة القوى المتصارعة؟ أم أنه يصدق عليه المثل «ما أشبه اليوم بالبارحة؟».