د.عبد الرحمن الحبيب
قبل أشهر حصلت صحيفة دير شبيغل الألمانية على وصول حصري لملفات سرية ضخمة لداعش تكشف إستراتيجيتها وخطة عملها.. وبعد دراستها نشرت شبيغل الأسبوع الماضي تقريراً طويلاً ومعقداً، سأحاول اختصاره وتبسيطه، ثم الوصول لاستنتاج قد يفك لغز داعش ولو جزئياً.
إذا كان قائد داعش هو أبو بكر البغدادي فإن الرئيس الإستراتيجي لها أو مهندسها الحقيقي هو عقيد سابق بالمخابرات الجوية لصدام حسين، كان يعمل سرًا مع داعش خلال توغلها في سوريا. اسمه الحقيقي غير المعروف هو سمير عبد محمد الخليفاوي، واسمه المستعار حاجي بكر معروف على نطاق ضيق.. ويختلفون في صفاته بأنه: منعزل؛ مهذب؛ يقض؛ غير صادق؛ غامض.. ويصفه البعض بـ «سيد الظل».
ترك مهندس داعش كنزاً من الأسرار وراءه بعد مقتله العام الماضي.. أوراقاً مليئة بالخطط التنظيمية كتبها بخط يده مستخدماً قلم حبر ناشف، تتمثل بالاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية كجسر لغزو العراق. وضع بكر هيكل الدولة، راسماً التسلسل القيادي للأجهزة الأمنية عبر خطة دقيقة تقنياً لدولة المخابرات أو الخلافة، تديرها منظمة تشبه ستاسي (وكالة الاستخبارات) سيئة السمعة بألمانيا الشرقية.
الخطة تبدأ بافتتاح مكاتب للدعوة في البلدات تبدو بريئة كالجمعيات الخيرية الإسلامية. وعبر الندوات، يتم اختيار المتحمسين وتجنيدهم بسرية للتجسس على بلدتهم والحصول على معلومات تفصيلية: الأسر النافذة، الأفراد الأقوياء، مصادر دخلهم، أسماء وأحجام ألوية الثوار وميولهم، أنشطتهم غير المشروعة لاستخدامها لابتزازهم. يطلب من الجواسيس ملاحظة تفاصيل المجتمع لاستغلالها في الابتزاز والقتل. من بين الجواسيس مخبرون ساخطون بمخابرات النظام، ومعارضون للنظام تخاصموا مع الجماعات الثائرة، وشبان يحتاجون المال وآخرون يجذبهم الجهاد الانتحاري..
ثمة موضوع أساسي دائم في الخطة، وهو المراقبة، والتجسس، والخطف، والقتل. فلكل محافظة أمير يكون مسؤولاً عن القتل والاختطاف والقناصة والاتصالات والتشفير.. حيث سيتم اختطاف وقتل أي شخصية نافذة ما لم تقف مع التنظيم. هناك، أيضاً، أمير يتجسس على الأمراء الآخرين، لجعل الجميع يراقبون بعضهم بعضاً. أي نفس الطريقة التي تعلمها حاجي بكر من أجهزة صدام حسين الأمنية. خطة بكر نُفذت بدقة مدهشة، فكيف تم تنفيذها؟.
في عام 2010، نصَّب بكر، ومجموعة صغيرة من ضباط المخابرات العراقيين السابقين، شيخ متعلم اسمه أبا بكر البغدادي، زعيمًا رسميًا للتنظيم، كي يعطي المجموعة وجهًا دينيًا، فهؤلاء الضباط علمانيون. حينها بدأت منظمة سرية قوية تتشكل عبر أعمال الإرهاب. وعندما اندلعت الانتفاضة ضد النظام في سوريا، لمس قادة التنظيم فرصة سانحة وانتقل حاجي بكر إليها.
بحلول أواخر عام 2012، تفرخت في شمال سوريا المجالس المحلية وألوية الثوار بشكل فوضوي استغلته داعش بإتقان من الضباط السابقين. كان هدف داعش الوحيد هو التوسع بأية وسيلة. قامت في البداية بافتتاح مكاتب الدعوة البريئة بعدة مدن شمال سوريا؛ مخزنة الأسلحة ومخفية مجنديها. وبمجرد تحديدها لعدد كاف من «الطلاب» الذين جُندوا كجواسيس، بدأت داعش بالتوسع دون مواجهة مكشوفة مع الآخرين، عبر الاختطاف والقتل السري. ثم ظهرت أكثر باستئجار مبان إضافية، ورفعت أعلامها السوداء، وأغلقت الشوارع، وأقامت معسكرات سرية تستقبل المجاهدين الأجانب.
عندما سقطت الرقة بيد تنظيمات الثوار في مارس 2013، تم انتخاب مجلس المدينة، ونظمت الجمعيات المدنية. وحسب خطة بكر، تم التسلل عبر القتل السري لكل من يصبح زعيماً أو خصماً لداعش. كان أول شخص على قائمة داعش هو رئيس مجلس المدينة، الذي اختطف منتصف مايو 2013 من قبل ملثمين.. ثم تواصلت السلسلة من اختطاف وقتل للأفراد النافذين وصل للمئات. تمادت داعش ومارست التفجيرات الانتحارية داخل صفوف الثوار ونشرت الرعب بينهم، وبنفس الوقت عقدت صفقات سرية مع الألوية المعارضة، بحيث تعتقد كل منها أنها بسلامة وأن الآخرين هم أهداف لهجمات داعش. وفي أكتوبر 2013 سحقتهم وأصبحت الرقة تحت سيطرتها.
الأعمال الوحشية لداعش وحَّدت ضدها كافة ألوية المعارضة فأخرجتها من مناطق واسعة شمال سوريا. ومع هجوم الثوار بداية 2014، قُتل سيد الظل: حاجي بكر.. وعندما عُلم لاحقاً من كان هذا الشخص الذي قتلوه، قاموا بتفتيش المنزل.. وجدوا أشياء كثيرة، لكنهم لم يجدوا أي نسخة من القرآن الكريم، وأهم ما وجدوا هو كنز الأوراق.
بعدها بدا كأن داعش متقهقرة وآيلة للزوال، لكن إرثاً آخر من حاجي بكر لعب دوراً حاسما في إنعاش داعش، وهو علاقته السابقة بأجهزة استخبارات الأسد. كان نظام دمشق يشعر بالذعر عام 2003 من مواصلة أمريكا إلى سوريا لإسقاط الأسد بعد إسقاط صدام حسين. ونشأت علاقة غريبة بين الجنرالات السوريين، والجهاديين الدوليين، والضباط العراقيين الموالين لصدام. كان الهدف الأساسي هو جعل حياة الأمريكيين جحيماً بالعراق.
تلقت داعش مساعدة من سلاح جو الأسد، وركزت مواجهتها ضد الثوار، دون أن تمس الجيش السوري. وبفضل الضربات الجوية الداعمة من الجيش السوري، استطاعت داعش استعادة الأراضي التي فقدتها. ولكن بعد نصف سنة، إثر احتلالها للموصل شعرت داعش بأنها قوية لتهاجم أعوانها السابقين من النظام السوري.
يمكن أن نستخلص من كل ذلك أن السرعة الغريبة والمفاجئة لتمدد داعش كانت نتيجة للاندماج الغريب بين طرفين ضدين: ديني متطرف (القاعدة) وعلماني استخباراتي (البعث). هذه نتيجة ليس جديدة ولكنها لم تؤخذ بالجدية الكافية. الطرف الأول مدجج بعقيدة جهادية انتحارية يوفر الأتباع المتحمسين.. والثاني يمتلك منهجية لتنظيم هؤلاء عبر خبرته بالعمل الاستخباراتي داخل المجتمعات، مع إرث ضخم من المعلومات والعلاقات السرية.. لينتج تنظيماً صارماً في الانضباط والسرية والخداع، ومرونة انتهازية نادرة في الانقلاب على الحلفاء بدءاً بربيبتهم القاعدة وليس انتهاءً بأعوانهم من البعثيين. الطرفان كانا يتميزان بالوحشية فعندما اندماجاً بلغا درجة مفرطة في الوحشية.
ثمة عامل آخر لم نأخذه بجدية كافية أيضا، وهو أن كافة الأطراف تستخف بداعش باعتبارها همجية متوحشة غير قابل للبقاء لأن الناس لن تقبلها، وبالتالي لا تستحق عناء المواجهة فهي ستسقط من تلقاء نفسها. هذا الاستخفاف أراح داعش من أغلب المواجهات في بداية نموها، بل دعمها النظام السوري تكتيكياً، فظهرت بشكل سريع. العجيب أن أغلب الأطروحات لا تزال تؤكد أن داعش ستسقط لا محالة، وداعش، للمفارقة، تتغذى من الاستخفاف بها.