أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
المرأةُ وَمَنْطِقُ العَدْلِ:
قال أبوعبدالرحمن: أعجبُ من قولِ خَوَاجِيٍّ يَـحِنُّ إلى عناصر كريمة سرقتها الصهيونية السياسية مما بقي من أثارة في دين بني قومه، وقد نقل هذا النص (ميشيل فوكو) في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)..
وسِرُّ حنينه: أنه لم يَـرَ في فلسفات قومه وَفْق مذاهبها المستقرة أيَّ رجعة لاحترام نظرية المعرفة التي تبحث بأناة وطمأنينة عن الدين الصحيح، وتُعيد للفكر ونوازعِ الخير رسالتَهما أمام غرائز الشهوات والشبهات التي بُني عليها القانون الطبيعي؛ وإنما يوجد خارج نطاق الفلسفات مَن يحنُّ إلى شيئ ساد؛ فباد عن الظِّلال الهانِئَة للأسرة؛ وذلك هو (بوشاسن) الذي نقل (فوكو) مشاعره.. قال (بوشاسن): «تعالين أيَّتُها [الصواب: أيُّها] النساء اللطيفات والشَّبقات [الصوابُ: بدون واو العطف، ومن صنوف الشبق الاغتلام]: ابتعدن منذ الآن عن أخطار اللذات المُـزيَّفة.. عن تلك الأهواء المندفعة.. ابتعدن عن الخمول والرخاوة.. اتَّبِعن أزواجَكنَّ الشبان في البوادي وفي الأسفار.. تحدَّينهم في التسابق فوق الحشائش الليِّنة والمحاطة [الصواب بدون واو عطف] بالورود.. عُدْن إلى باريس، وقدِّمن لأزواجكن المَثل [أي المثل النافع الذي يُقتدى به] في أعمال المنزل التي تناسب جنسكن.. أحْبِبْن تربيةَ أبنائكن؛ فستعرفن كم هذا الأمر ممتع فوق كل المُـتَع؟!.. إن الطبيعة [بل الله سبحانه] وهبتكن السعادة.. سَتَشِخْنَ بَطِيئاً عندما تكون حياتكن خالصة «.
قال أبو عبدالرحمن: هذا ذو حِسٍّ إصلاحي تقزَّز من فراغ البيت، ودناسة الأعراق، وضياع الهُـويَّات، ونتَن الدعارة، ورخاوة المدينة، والوحدة الخانقة للمتزوج والأعزب؛ لمخالفة شرع الله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، ونقوم لهن بالكفاية بمقتضى القَوامة، ويمنحننا السعادة: أُنْساً في البيت، وحِفظاً للطَّرْف أنْ يتذبذب ذات اليمين وذات الشمال، ونسعد معاً بالنسل منذ لُثغة الطفل في شبابنا إلى حِياطتهم لنا بعد الله بالمرحمة والبذل في شَيْخُوختنا.. إن (بوشاسن) مدركٌ الثمارَ اللذيذة الْـمُغَذَّاةَ من شجرة الأسرة المباركة؛ فمع الطهارة من الدنس: يكون العطف الصادق، والهُـويَّة الخالصة، ويتكوَّن من الأسرة الواحدة أُسَرٌ كثيرة يجمعها أب واحد؛ فتوجد عاقلةٌ في النوائب، ويوجد التكافل الاجتماعي الذي يُقدِّم ذوي القربى، وتنمو نزعة المرحمة للجار والفقير والمُبتلَى؛ وهكذا ينقاد نظام المجتمع كله؛ فلا يسقط فيهم عاجز، ولا يستوحش بينهم مقطوعُ الشجرة، ويرتفع شُحُّ الأنفس والأنانية، ويِحلُّ مكانَ ذوي تلك الصفاتِ العَفِنةِ المذكورة آنفاً مَن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ ومِن ثَـمَّ تَـحُفُّ رحمةُ الله بالجميع.. ودعك من بضعة دولارات تدفعها الدول للعاجزين؛ فهذه لا تكفي دواءُ ولا غذاء ولا سكناً.. ودعك من رَيْعِ التأمينات الذي أنْهكَ الفرد مدى عمره؛ فذلك الرَّيْعُ لا يمنحه نعمةَ الأسرة والمجتمعِ المتكافِل، ولا يُزِيل عنه وحشةَ الوحدة، وشبحَ العدمية اللازم الملازِم.
قال أبوعبدالرحمن: وبعكس هذا الخواجي المشفقِ على وضع أمته: نجد عادلَ أبا شنب ذا غيرةٍ على أمته العربية، ولكنها أُمَّةٌ غير الأمة التي نعرفها منذ جاهليتها، وقد جاء الإسلام ليتمِّمَ مكارم أخلاقها، وقد بلغت بهم الغيرة على المحارم إلى أمرٍ أشدَّ حُرْمَة؛ فجاء الإسلامُ المُتَمِّمُ مكارمَ الأمة العربية بإقرار الغَيْرة وتنظيمها، وبَسَطَ جناحَ الوقاية وطهارة القلب والسمع والبصر قبل إجراء العلاج بالعقوبة، وأحاط إقامةَ العقوبةَ بحواجز لا تُفْلِتُ إلا في مجتمع عَلَنُه إباحي.. ومرَّت عصور بقي فيها العرب على دينهم، وغلبتْ عليهم خصالٌ جاهلية من السلب والنهب؛ كَشَظَفِ العيش، وضَعْفِ الوازع السلطاني، وعدم الوعي بتنمية الإنسان مهارةً وفكراً، وعمارةِ الأرض.. ومع هذا فمصيبة بنت البادية - كما ذكرتُ ذلك في مُناسبة سابقةٍ بهذه الجريدة - أن تُفْدح في حجابها؛ فمهما قيل عن جرأة بنت البادية، وأنَّ (بنت الرجال لا تهاب من الرجال) إلا أن الحجاب شرف لا تتركه وهي تشارك الرجال من أبناء العمِّ (وكلهم غيور على محارمه) في أصعب أحوال المعيشة؛ ولهذا لا يكون الذهول عن الحجاب إلا في كارثة خطيرة كما قال ابن سبيل في مدحه فيحانَ بنَ زريبان:
عَوْقَ الخصيمْ وْسْتر مَنْ تِذْهِل غْطاهْ
لاهَجِّ من عجِّ السبايا قعودهْ
وقال سعدون العواجي يرثي ابنه:
خَيَّالنا لا طارِ سِتْرَ المِـزايِينْ
يَرْعَى بظلِّهْ كلِّ مِصْلاحْ
فمعنى ذلك أنها صاحبة حجاب تحافظ عليه، ولا تنساه إلا في مثل هذا الموقف حينما يلتحم الجمعان، وتصيح صاحبة الهودج تستحثُّ الشجعان.
وأما غيرة أبي شنب: فقد جاءت احتجاجاً على (غالي شكري)، وهو أرثوذكسي هجر بلادَه مِصْرَ طويلاً متعاوناً مع الصحافة المارونية، واصطنع الماركسية مُنظِّراً لها في حزب خالد محيي الدين، وزميلُه الأدنى في التنظير عبدالمنعم تليمة.. وكان مما نشره آنذاك في الصحافة اللبنانية: « أن التمازج بين العروبة والإسلام قَوقَعَةٌ لا يحقُّ للتقدُّميين أنْ يسكنوها؛ لأنه لا علاقة بينها وبين الطابع القومي للتراث؛ ذلك أن المرأة نالت يوماً في تراثنا ما لم تنله المرأة الأوربية بعد «.. وهو يريد بتراثنا تشريعات حمورابي والتراثَينْ الفينيقي والفرعوني، وأضاف هذه المعادلة بقوله: « إنَّ ما لا أجده في التراث الإسلامي ويحتاج إليه تقدُّمنا الراهن قد أجده في التراثين المسيحي واليهودي؛ وهذه كلُّها أجزاء من ثراثنا القومي!! «.
قال أبو عبدالرحمن: لقد اِهْتَزَّ (عادل أبو شنب) غضباً على هذا المنطق، وغيرةً على أمته العربية؛ فنقم على (غالي شكري) غَفْلَتَه عن عناصر تُبرِّئ ساحة العرب؛ وذلك أنهم لا يتعاملون مع تراثهم على أساس ديني، وأن العروبة تراث يجمع كل ما مرَّ من مفاهيم وحضارات في المنطقة!!!. . وصاحِبُ هذا المنطق وُجِدَ قبلهم بأجيال، وهو جمال الدين البهائي لابْنُ صَفْدَر الذي تبنَّى أديان الشرق، واستحيا عبارة تضليليَّةً استخدمها في غير محلها، وهي: (كل الطرق توصل إلى روما)، ولهذا يلتقي المؤمنُ والوثني والملحد على قبولِ ربِّه له في الآخرة؛ لأن كلَّ هذه السُّبلَ مُوصِّلِةٌ إلى الجنة!!. . هؤلاء كلُّهم من قُوى التضليل في أُمَّتنا، وتهافت في نيرانهم ضحايا التعدُّدية؛ لضعف قَدَرِهم في القوة العلمية المادية، وتفوُّق العالم الأقوى؛ فأصبح كل ما يأتي من هناك على العصمة، وأصبح تاريخُنا لا يعني أمجادَ عِرْق عربي، ولا مزايا رقعة وطنية.. والذي يفقهه متوسط الثقافة التاريخية أنَّ العروبةَ كرائمُ أخلاقٍ تجاوزوا فيها الحدَّ؛ فانقلبت إلى ضدها؛ فبدأ التاريخ العربي الحقيقي باستعادة الكرامة للتصور العربي السليب؛ وهو التصور الذي بدأ بالإسلام ولم يولد مع العروبة.. إنه التصور الذي أصبح به العربيُّ ذا وجود تاريخي، وحضور طليعي.. والأديانُ كلُّها ليست تراثاً قومياً ولا وطنياً، ولكنها إرثُ أتباعِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين بلَّغوها عن ربهم، وخصَّ الله بعض القوميات بشريعة، ولكن المِلَّة واحدة، والإسلام جاء بأيسر شريعة، وبمِلَّةِ الرسل عليهم الصلاة والسلام التي لا نسخ فيها؛ فهو دين البشرية بلا عرقية؛ وإنما للعربِ فضيلَتُهم ما ظلوا قائمين على دينهم؛ لأن الإسلام انتشر بالله ثم بجهاد خير الأمة من أجدادِ عربِ هذا الزمان؛ ولأنهم الأعلم بدين ربهم الذي نزل بلغتهم؛ فإذا تخلَّوا هيأ الله مَنْ ينصرُ الدين مِن غيرِهم، ويذيقُهم الذلَّ حتى يَفِيئُوا.. وحدث هذا كثيراً في التاريخ كتمكين المسلمين في الأندلس على أيدي البربر، وتمكين المسلمين على يد أمثال صلاح الدين الأيوبي، وابن قلاوون، وحفدة عثمان أرطغرل.. ولو ورث هذا الإرث زنوج أمريكا، أو جُفاةُ النوبة: لكانوا أسعدَ به وأحقَّ من كل عربي صريح القُعْدَد انتمى إلى لينين أو ماوتسي أو ميشيل عَفْلَق قبَّحهم الله ؟.. ! إن الحضور العربي دولةً وقوةً وهداية وعبقرية علمية: لم يرتبط بدنٍ غير دين الإسلام.. ودينُ الإسلام جاء للناس كافة بلغته القومية، ومُبلِّغه عربي، وجمهور المناضلين عنه في بدايته عرب؛ وإذْ هو للناس كافة: فإنَّ العرب أولى الناس بتبليغه؛ لأن إليهم المَرْجِع في تبيانه من لغتهم؛ فإنْ تولوا عن الصدارة والأوْلَوِية فأمةُ محمد صلى الله عليه وسلم أوسعُ مِن نسل عدنان وقحطان؛ لأن الله كرَّم العرب بالرسالة، ولم يكرم الرسالة بالعرب؛ وإنما منحهم خِصالاً كريمة في أنفسهم؛ ليكونوا أهلاً لحمل الرسالة التي كرَّمهم بنشرها وتبليغها؛ فإنْ تراجعوا فالله مُـحَذِّرهم بقوله سبحانه وتعالى:{وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (38) سورة محمد.
وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.