د.عبد الرحمن الحبيب
ثمة توجيهات صادرة من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي يرأسه الأمير محمد بن سلمان، بضرورة إصدار استراتيجية لكل وزارة معنية بأسرع وقت ممكن بغير طريقة الزمن البيروقراطي السابق بل بالطريقة الجديدة التي أظهرتها القيادة الجديدة، وهي الحيوية في العمل. هذه الحيوية تتميز بسرعة الإنجاز وكفاءته.
ورغم أن بعض القطاعات تحتاج لإعادة هيكلة تتواءم مع النمط الحيوي الجديد، وهو ما يحصل الآن، فإن كثيراً من المقالات نبَّهت الوزراء الجدد (خاصة بالوزارات الخدمية) إلى عدم ضرورة أن يقوم الوزير الجديد بالبداية من الصفر لعمل وزارته والقيام بتعديلات هيكلية جذرية لما قام به سلفه، فهناك إنجازات في تلك المؤسسات عليه البناء عليها أو تعديلها وليس إلغاؤها والبدء من الصفر، لأن ذلك قد يكون إهداراً للجهد السابق المبذول، فهو لن يخترع العجلة كما ردد كثير من الكُتاب.
أيضاً طرحت بعض الآراء سبب البداية من الصفر المعتادة سابقاً لبعض الوزراء الجدد، بأنه نتيجة اعتقاد شائع تقليدي بأن الوزير يمارس مهامه باعتبار المؤسسة خاضعة لرؤيته الشخصية واجتهاداته، وبالتالي فهو منساق للبدء من جديد وفق هذا الاعتقاد.
أهم من هذا السبب هناك آخر لم يتم التطرق له فيما اطلعت عليه، وهو الافتقار لاستراتيجية واضحة أو خطة عمل عامة لكثير من الوزارات الخدمية. فعندما يأتي الوزير يجد أن المنهج المستخدم لقيام الوزارة بأداء مهماتها الرئيسية نابع من منهج القرارات وليس منهج التخطيط العام (استراتيجية) يوضح برنامج الوزارة العام في تنفيذ مهامها. ولأن منهج القرارات هذا يقوم أساساً على الاجتهادات الشخصية للوزير وفريقه وليس على الإطار المنهجي الموضوعي الذي تشكله لجان متخصصة بإشراف الوزير، فيضطر الوزير الجديد لبداية جديدة.
إذا جاء الوزير الجديد ولم يجد أمامه استراتيجية واضحة، ماذا يفعل؟ يستمر بطريقة القرارات العامة (تعميم) التي يصدرها تباعاً دون وجود خطة عامة متماسكة، فيحصل أن تأتي قرارات جديدة مخالفة لقرارات سابقة من نفس الوزير الذي أصدرها، أو أن القرارات تبتعد عن الأهداف العامة للوزارة. ذلك أن مثل هذا الوزير يصدر قراراته وفق فهمه الفردي للخط العام للدولة وليس وفق خطة عامة متماسكة منهجياً.
الاجتهاد الشخصي للوزير ليس عيباً بل هو من صميم عمله وإصدار القرارات هي من واجباته لكنها يتركز في ما بعد الأسس العامة كطريقة تنفيذ الاستراتيجية، أما الأسس العامة فينبغي أن تسير وفق خطة عامة أو سمها خارطة طريق تدله على الاتجاه السليم في أداء المهام العليا للوزارة. فالمهام العليا لأية وزارة ينبغي أن تنبع من الخط العام للمهام العليا للدولة وليست خاضعة لاجتهادات الوزير. الرؤية الاستراتيجية للوزارة تتأسس على الرؤية الاستراتيجية الشاملة للدولة، والأهداف الاستراتيجية للوزارة تنبع وتتكامل مع أهداف الخطة الوطنية الشاملة.
يمكن القول بإيجاز إن الخطة العامة أو استراتيجية الوزارة تضع للوزير ولبقية كبار المسؤولين في الوزارة سلَّم الأولويات والتوازن بينها، ثم تحدد الأهداف في ضوء الإمكانات المتاحة لتنفيذها (الفرص والتحديات والصعوبات)، ثم خطوات تحقيقها، مع الأخذ في الاعتبار المستجدات الطارئة، وبالأخير طرق قياس ما تم إنجازه وما لم يتم. التوازن بين الأولويات قد يختل إذا اتبع الوزير منهج القرارات الاجتهادية في التعامل مع الأولويات، مما يحرف تنفيذ الأهداف عن الخطة العامة المفترضة. إلا أنه من صلاحيات الوزير أن يخطط ويعدل وفقاً للمستجدات الطارئة ولتغير الإمكانات المتوفرة وما تواجهه الخطة العامة من صعوبات لكن ليس بما يبعده تدريجياً عن أولويات الوزارة وأهدافها الأساسية المتماشية مع السياسة العليا للدولة.
ورغم أن البعض بدأ يتململ مما أسموه «موضة» الاستراتيجية المثالية التي توضع ويصعب تطبيقها، فإنه لا مفر من وضع استراتيجية فهو ضرورة عملية. ما يخشاه البعض غير المرتاح لـ«موضة» الاستراتيجيات هو أن أهدافها قد تكون واسعة ومجردة وبلاغية أكثر من كونها عملية. هذا يذكر بمقولة الرئيس الأمريكي الأسبق إيزنهاور التي أصبحت شعاراً للعملياتية الأمريكية: «الخطط قليلة القيمة ولكن التخطيط هو كل شيء». والاستراتيجية كما يقال هي علم (أو فنّ) التخطيط أو منهج تخطيط للاستخدام الأمثل لكافة الإمكانات والوسائل المتوفرة.
إنما الضعف في أية استراتيجية لا يعني أن العيب فيها كمنهج بل العيب في محتواها وليس في إطارها. بل إن البعض يرى أن العيب في أية استراتيجية هو أفضل مع عدم وجودها، كما يقول المثل الإنجليزي: «وجود خريطة خاطئة أفضل من عدم وجودها على الإطلاق!».. رغم المبالغة في هذا المثل إلا أن المقصود واضح.
من سمات الأوامر الملكية في العهد الجديد أنها تجاوزت الزمن البيروقراطي المعتاد، ومن المرجح أن يبث ذلك حيوية جديدة في الحكومة السعودية التي ترهلت بعض مؤسساتها بالثقل البيروقراطي.. حيوية مرشحة لانطلاقة نوعية في فاعلية الأداء الحكومي بشكل أكثر عملية وفاعلية. فقد رأينا سرعة إقالة بعض الوزراء (الإسكان والصحة) لأسباب عملية بحتة.. ولاحظنا كيف تم الاحتفاظ بوزراء أقدم نتيجة إنجازاتهم المميزة كالوزيرين عادل الفقيه وتوفيق الربيعة.
ذلك يعني أن الوزراء الجدد أمامهم اختبار الإنجاز، ويعني أيضاً ضرورة بث الحيوية في القطاعات ذات التراكم البيروقراطي المزمن، والمهمة تغدو أكبر تحدياً لأولئك الوزراء الذين قدموا من القطاع الخاص في استيعاب البيروقراطية واحتوائها بطريقة عملية، عبر تصحيح مسار إجراءاتها اللازمة للأداء الإداري كوسيلة وليست كغاية كما يمارسها عتاة البيروقراطيين الذين صارت الأنظمة البيروقراطية هدفاً في حد ذاتها بالنسبة لهم وليست وسيلة لخدمة للمواطنين..
رئيس مؤسسة في القطاع الخاص كان يتخذ قرارات عملية بجرة قلم أو مكالمة هاتف.. والآن أصبح وزيراً وصار لكي يتخذ قراراً بالطريقة التي اعتاد عليها تواجهه سلسلة إجراءات بعضها ضروري وبعضها خلقته البيروقراطية وجحافل جيشها المعتق.. فماذا هو فاعل؟ يقول الكاتب الكندي لورانس بيتر: «البيروقراطية تدافع عن وضع كانت عليه الأمور في زمن مضى بوقت فَقَدَ هذا الوضع مكانته».
القرارات الملكية العملية هي قرارات استراتيجية لتفعيل الأداء الراهن.. ويبدو أن السياسة الجديدة للدولة ستُخضِع البيروقراطية للعملياتية، ولن تلتفت كثيراً للمبررات البيروقراطية التي قد يرفعها بعض الوزراء.. التحدي أمام الوزراء كبير فلطالما انتصرت البيروقراطية وابتلعت نشاطات من كان قبلهم..