محمد آل الشيخ
بين الرياض والملك سلمان قصة حب وعشق قديمة؛ أحبته؛ وأحبه أهلها، بل معالمها التاريخية، وبادلهم حباً بحب، تجلى فيما شهدته وما تشهده اليوم الرياض العاصمة من حداثة وشموخ وتحضُّر في كل المجالات؛ لذلك فاحتفال أهلها ببيعته - حفظه الله - هذا اليوم هو احتفال استثنائي بكل المقاييس؛ فقد تسلم حكم منطقة الرياض أميراً وحاكماً إدارياً وهو ما زال في العشرينيات من عمره، وسكانها لا يتجاوزن حينها المائتين وخمسين ألفاً كما يقال، وانتقل من إمارتها إلى وزارة الدفاع، والذود عن العرين، المنصب الذي تسلمه بعدها وعدد سكانها يقارب الستة ملايين إنسان. كان همه وغاية غاياته أن يسابق بها وبتطويرها وخدماتها لأهلها وزوارها الزمن؛ ليضعها في مصاف العواصم العالمية الكبرى، وحقق بامتياز هذا الإنجاز خلال مدة تسنمه إمارتها وتصريف شؤون الحكم فيها، إضافة إلى أنه كان يعرف تفاصيل تفاصيل تاريخها. والراجح من رواياته، وما دُوِّنَ منه، وكذلك الشفهي أيضاً، معرفة الخبير المؤرخ؛ فهو لم يكن أميرها وحاكمها الإداري فحسب، وإنما كان - أيضاً - مرجع تاريخها الأول، منذ أن كانت (حَجْرَ اليمامة)، حتى أصبحت (الرياض) عرين أئمة وملوك آل سعود وأمرائهم، وعاصمة الدولة السعودية الثانية، دولة مؤسسها ومُحيي شرعيتها ومجددها بعد أن كادت تندثر، الإمام العظيم تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود - رحمه الله - جَد الملك سلمان الثالث، ومن ثم انطلقت منها وابتدأت بها ملحمة الوحدة في عصر مؤسس الدولة الثالثة في العصر الحديث الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - حينما جعلها مُنطلق ملحمة التوحيد والوحدة العظيمة التي نعيش الآن في كنفها.
ومن المشهور عنه أنه - حفظه الله - يعرف أهلها وأسرها، بل المعروف من أفراد أسرها، واحداً واحداً؛ فيندر أن تكون من أهل الرياض، وبالذات من سكانها القدامى، أو كما نسميهم نحن أهل الرياض (سكانها المخضرمين)، ولم تمر يوماً بقصر الحكم في (الصفاة) موقع القلب منها، إما لقضاء معاملة، أو لأداء واجب اجتماعي، ولا تتشرف بالسلام على (الأمير سلمان) الملك الآن، الذي اختلط اسمه بالرياض، حتى لا تكاد تفرق بين سلمان بن عبدالعزيز والرياض العاصمة؛ فكأنها هو، وكأنه هي؛ وقد كان طوال حكمه للرياض يشارك في أفراح أهلها وكذلك أتراحهم، إما كوالد حنون، أو كشقيق شفيق، أو كصاحب عضيد قريب؛ تفوح مواقفه وفاء وأريحية ورجولة. كما أنه كان يشارك مشاركة السياسي المحنك في كل القرارات التاريخية في البلاد وليس العاصمة فقط؛ فيندر أن يَتخذ واحد من الملوك الخمسة الذين سبقوه قراراً من قرارات الحكم، وتحديداً القرارات المصيرية، في شأن من شؤون الدولة، لم يكن له فيها مشاركة وحضور جوهري بشكل أو بآخر. كما اشتهر عنه أنه - أمد الله في عمره - من أدق الأمراء الكبار، وصناع القرار، في انضباطه الزمني بمواعيده، فلا يمكن أن تتعدى الساعة التاسعة صباحاً ولم يكن في قصر الحكم، يضطلع بمسؤولياته. ونظراً لخبرته وممارساته الطويلة يندر أن تمر عليه معاملة، أو تُرفع إليه قضية، لم تمر عليه مثلها قضية مماثلة، أو سبق أن عُرض عليه شبيه لها، فتجد قراره حينما يتخذه يستند فيه إلى تجارب مماثلة، عرف إلى أين انتهت وما هي نتائجها وما آلت إليه تبعاتها، فتراه يستعين بتجارب سابقة، وبمعين ثري بالخبرة، فيما يبتُّ فيه من قرارات لاحقة، خاصة أنه كما يعرفه جميع من عملوا معه يتمتع بذاكرة حاضرة دائماً، أشبه ما تكون بذاكرة الكمبيوتر؛ لذلك أُطلق عليه منذ السبعينيات من القرن المنصرم لقب (كمبيوتر السعودية). ومن النادر أن يزور الرياض سياسي، أو مثقف، أو إعلامي، أو يقطن فيها سفير لبلاده، إلا ويكون له علاقات وطيدة مباشرة به؛ فالسفراء في المملكة يعتبرون معرفته وزيارته وتوطيد العلاقة معه وكأنها للسفير الجديد من ضمن بروتوكولات اعتماده سفيراً أو قائماً بأعمال دولته في المملكة، منذ أن كان أمير الرياض، حتى قبل أن تنتقل السفارات الأجنبية إلى العاصمة.
ومعروفٌ عنه، منذ أن تولى حكم الرياض، أنه حاسم وحازم، وأنه عادل ومنصف، ولا يفرق في نزعته القيادية المتمكنة من شخصيته إلى العدل والإنصاف بين هذا وذاك، ولا بين قريب أو بعيد، ولا بين وافد ومواطن، بقدر ما يتحرى العدل، ويحرص عليه، ويتخذ منه هدفاً وغاية نهائية، لا يحيد عنه قيد أنملة. وهو صاحب مبدأ، وقيم، وثوابت، لا يحيد عنها، ولا يُساوم عليها؛ فلا تجد لمزاجيته - مثلاً - وغضبه ورضاه تأثير على أسلوبه وديدنه في اتخاذ القرار، إلا إذا كانت المصلحة العليا للوطن تتطلب موقفاً هنا، وموقفاً مغايراً هناك، كما هو دائماً ديدن (رجال الدول) المتميزين، فهو في هذه الحالة فقط يدور مع مصلحة الدولة حيث دارت وإلى أين اتجهت.
والملك سلمان - كما عُرف عنه واشتُهِر - يهتم بالثقافة والقراءة والاطلاع والإعلام والكِتاب والإعلاميين، سواء كانوا في داخل المملكة أو خارجها. وحينما يقرأ أو يسمع لمفكر أو كاتب أو إعلامي، من خلال وسائل النشر، معلومة معينة، ويجد أن له حولها وجهة نظر مختلفة أو أنها لم تكن دقيقة بالشكل الصحيح، أو تحتاج إلى تعليق أو إضافة لإثرائها، يتصل فوراً بصاحبها مباشرة، إما هاتفياً، أو يطلب منه أن يزوره في مكتبه، ويناقشه فيها، وفيما يكتنفها من ملاحظات، مباشرة ودون وسيط، حتى وإن كانت هذه الملاحظات تتعلق بتجاوز سياسي ما، وكان هذا التجاوز فادحاً. فالحوار أولاً؛ لأنه ببساطة مثقف ومتمكن ومطلع، ومتابع، ويؤمن - كما هم المثقفون الحقيقيون - بالحوار والنقاش، وبالاختلاف في وجهات النظر، خاصة في الشؤون السياسية والاجتماعية، وكذلك الفكرية التي عادة ما تكون محل توجهات ثقافية مختلفة، وتقديرات غير قطعية، واحتمالية في مدلولاتها. وهناك من القصص والأحداث التي مرّت به، ومرَّ عليها، ما تملأ مجلدات وكتباً، خاصة في إدارة الحكم المحلي، والتعامل مع التحديات والمتغيرات. وأتمنى من كل قلبي أن يكلف - حفظه الله - أحد كتّاب السير المتخصصين بكتابة سيرته، وتزويده بالوثائق لإثراء هذه السيرة؛ فتاريخه أولاً: تاريخ العاصمة منذ أن كانت بلدة صغيرة، حتى أصبحت مدينة عامرة حاضرة شامخة، ومترامية الأطراف، كما هي عليه الآن. وثانياً: لأنه على علاقة وطيدة وحميمة بالكِتاب والكُتاب، ويعرف قيمة التاريخ المكتوب والموثق في تراث الشعوب وتوجهاتها. ومثل من يكون ذا تجربة ثرية، كتجربته السياسية وثرائه الثقافي والمعرفي المشهور، لا بد أن تكون سيرته - أمد الله بقاءه - متاحة؛ لتطلع عليها وتتعلم منها الأجيال الحاضرة والقادمة. إنها أمنية غالية، أتمنى ويتمنى كثيرون غيري، داخل المملكة وخارجها، أن يتم تدوينها منه شخصياً، وتُنشر؛ لتبقى جزءاً من التاريخ السياسي والإداري للمملكة، كما هي سير زعماء الدول المتميزين في العالم المعاصر. وإذا كانت الرياض اليوم تحتفل وتفخر بحبيبها وعاشقها وابنها البار، وهو ملك للمملكة، فإن من حقها عليه أن يقرأ أهلها، خاصة الشباب منهم والقادمين ليسكنوها مستقبلاً، سيرة واحد ممن صعد بإنسانها، وصعد بمبانيها، حتى لامس بهما السحاب، حقيقة لا مجازاً؛ فهو تاريخ الرياض، والرياض اليوم تحكي تاريخه، ومن تكون تلك القامة الشاهقة.