د. عبدالحق عزوزي
اشتهر ابن خلدون كأحد مفكري عصره بكتابه العبر، وبخاصة في جزئه الأول كتاب المقدمة الذي سبر فيه أغوار حركية التاريخ، وذلك بتجاوز القشرة السطحية لمقتضيات الأحداث، وتأمل في الظواهر الاجتماعية والأسباب التي تتحكم فيها مما جعله يكتشف قواعد التطور التاريخي للمجتمع،
وأسس لعلم كان أول من استنبط قواعده وسمّاه بعلم العمران.. ونظر ابن خلدون إلى المسائل السياسية في حركتها المديدة الفاعلة في العمق، كما كانت له الجرأة الفكرية في مناقشة بعض الأمور التي لم يتطرق إليها أسلافه، وكان ذكياً وبارعاً في التأصيل العلمي لبعض العلوم كفن التأريخ الذي يرى فيه فناً عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم.. والأنبياء في سيرهم.. والملوك في دولهم وسياستهم.. حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت، يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد..... أستشهد بهذا الكلام الرائع ذي المغزى الإستراتيجي الكبير، لأقول بأن تحقيق الوفاق والمصالحة وتوطيد دعائم الأمن وتجذير الثقة في الدولة من أهم مقومات البقاء... والثقة هي الوقود المحرك في هذا كله... فالثقة بين الدولة والمجتمع والتي شهدت في العقود القليلة الأخيرة انخفاضاً حاداً بكل المقاييس المتوافرة في العديد من الدول، تلك الثقة التي لن يتمكن تصحيح سياسي من النجاح إلا بالاستناد إليها، لا يمكن أن تعزز إلا إذا شعر كل مواطن بأن دولته قد بادرت إلى الاستقواء بمجتمعاتها كي تقاوم معه، وبه، مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل، وكي تثبت معه ركائز عقد جديد بين الدولة والمجتمع وتقوي تماسك اللُحمة الحامية للدولة من مؤسسات بناء على قواعد جديدة عكس ما نراه في الكثير من الدول كليبيا وسوريا وغيرهما.. فتجذير بناء الثقة واحدة من القوعد التي تُبنى عليها الأوطان السليمة، لأن غرس الشك المستمر في أذهان الناس وعوامهم يُورث الريبة والسخط، ويخلق أمارات الفتور والتوتر، ويجعل الناس لا يصدقون ممثليهم، وتحصل في النفوس من التكاسل ما لا يمكن وصفه فيقصر الأمل؛ فبناء الثقة مبدأ سام في بناء الدولة والمؤسسات، فبدونه يمكنك أن تكبر أربعاً على وفاة الدولة؛ ولا يجب زرع بذور الشكوك عن المؤسسات والأفراد، فخصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله، وحسن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله.
والنهج العقلاني يكون مبنياً على تلبية احتياجات الأجيال الجديدة.. وكلها مبنية على العدل والتوافق والإيثار والمصلحة العليا؛ وهي القواعد الرشيدة للحكم، لأنه إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأس الحكام، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة، وقد نهى عمر سعداً رضي الله عنه عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد، وقال له: «هَلاَّ انْتَظَرتَ فِي اتِّبَاعِهِ إِذِني؟» وَكَتَبَ إلى عُمَرَ يَسْتَأذِنُهُ فَكَتَبَ إِلَيهِ عُمَرُ: «تَعَمدُ إلى مِثلِ زُهرَةَ وقَد صَلِي بما صَلِيَ به، وبَقِيَ عَلَيكَ مَا بَقِيَ من حَرْبكَ وتَكْسِرُ فَوقَهُ وتُفسِدَ قَلبَهُ! وأمْضَى له عُمَرُ سَلَبَهُ.. فالله سبحانه وتعالى ركب في طبائع البشر الخير والشر كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وقال عز من قائل: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.. والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الاقتداء بالدين وعلى ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله من أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه فقد امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع كما قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ولقد نجحت الهند والعديد من المدن والجامعات الآسيوية في تطوير البحث العلمي والتكنولوجي، انطلاقاً من المنهج العقلاني الذي اتبعته السياسات العمومية لتلك الدول مكّنتها من تحقيق المستحيل وبموارد قليلة جداً مثل اليابان اللهم ما تعلق بالموارد البشرية وهو ما نملكه نحن العرب أيضاً.. وللذكر فإن القوة الزائدة على الحد (من حيث الموارد)، كثيراً ما أثبتت أنها لعنة عندما تفضي إلى الثقة المفرطة، واتباع إستراتيجيات غير ملائمة؛ فقد قتل داوود جالوت لأن موارد قوة جالوت المتعددة دعته إلى اتباع إستراتيجيات خاطئة، أما داوود فقد أتاه الله العلم والحكمة... وفي هذا الصدد، دخلت مركبة فضائية هندية «مانغاليان» المدار حول كوكب المريخ بعد رحلة ناهزت السنة وقطع مسافة 666 مليون كيلومتر تقريباً، لتصبح بذلك الهند الدولة الآسيوية الأولى التي تدخل نادي مستكشفي الكوكب الأحمر والرابعة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا.
وألف مبروك هنا لدولة الهند!! نعم.. إنها قدرة الإنسان الهندي على التحدي وتحقيق المستحيل.. منذ زمان والهند تتوفر على السلاح النووي.. ولكن هذا لا يهم في مقالتنا هاته.. الذي يهم هو أن الهند بدأت تستفيد من تطور بحثها العلمي ومن الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا المتطورة.. ووصول الهند إلى كوكب المريخ يُوحي لكل متتبع حصيف أن المجتمعات التي ستهيمن أكثر على العالم هي المجتمعات المبنية على المعرفة والمهارة والبحث العلمي المتطور والابتكار.
والوطن العربي يسجل للأسف تأخراً كبيراً في هذا المجال؛ فإذا أخذت مثلاً التصنيفات الدولية العالمية المعتمدة للجامعات كتصنيف شنغاي، فالريادة دائماً للولايات المتحدة الأمريكية ثم بريطانيا ثم آسيا.. وهذا التصنيف يعتمد فيما يعتمد عليه على البحث العلمي المتميز المنشور في دوريات عالمية (40%)،كثرة الرجوع والإحالات إلى أبحاث أعضاء هيئة التدريس (20%)، حجم الأداء الأكاديمي قياساً إلى حجم المؤسسة (10%)، الانفتاح، الحضور والتأثير للمؤسسة العلمية في المؤتمرات والندوات الإقليمية والعالمية، فضلاً عن عدد الحاصلين على جوائز التفوق (خريجون وأساتذة) في التخصص وأبرزها جوائز نوبل (30%) والجامعات العربية دائماً في ترتيب متأخر جداً.
إن تنمية المهارات والعلم والبحث والتنمية والابتكار هي المفتاح الذي يسمح لدولنا العربية، بفرص ربح معركة التنافسية، وبالتالي معركة العولمة.. ويتطلب التحدي من هذا النوع اعتماد نظام تعليمي قوي وذي جودة، كما يتطلب رؤية واضحة في مجال التنمية التكنولوجية، وهذا هو الأساس لتحقيق الرفع من مستوى التنمية في الوطن العربي.