د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
نعرف أن تشغيل عمالة منزليه شرّ لا بدّ منه. هو شرّ لأنه يزيد من أعباء تكاليف المعيشة، بما تستقطعه الأسرة من دخلها الشهري، ولأنه يجعل ربّات البيوت وبقية أفراد الأسرة يتّكلون على هذه العمالة ويتركون لها كافة أعمال المنزل، وبعضهم يوكل إليها تربية الأطفال..
.. وهو لا بدّ منه لأن البيوت كبيرة ويشقّ على ربّة البيت وحدها القيام بأعمال المنزل - ولاسيّما مع تلاشي دور الابنة التي تساعد أمها، وتخاذل الزوج والأبناء عن أداء بعض المهمات الأسرية بالسيارة على الرغم من وفرة سيارات العائلة، وفوق ذلك عندما تكون ربة البيت موظفة أو مدرّسة.
إذن لابدّ من غض النظر عن بعض شرورها والتسليم بضرورتها في الظروف الحاضرة على الأقل. لكنّ مما يؤسف له أن عدة أطراف تستغلّ حاجة الناس الماسّة للعمالة المنزلية لابتزازهم في مسألة الاستقدام، وإرهاقهم بفرض تكاليف مبالغ فيها تفوق القدرات المالية لكثير من الأُسر التي تضحي بجزءٍ كبيرٍ من متطلبات معيشتها لكي تسدّ حاجتها للعمالة.
هل هي العقلية التجارية الاحتكارية التي تريد أن توسّع مكاسبها من خلال التضييق على أصحاب الحاجة؟ أخشى أن يكون في ذلك شيء من (تجارة البشر) التي يشمئزّ منها كل مجتمع متحضر وتحظرها القوانين.
بل هي سوق سوداء تزدهر تحت سمع وبصر الجهات ذات العلاقة باستقدام العمالة، كما نلمسه مباشرة أو تتحدّث به المجالس أو تكتب عنه الصحف أو تتداوله وسائل التواصل الاجتماعي؛ ويشمل الانتقاد المرّ كلّ ذوي العلاقة بتنظيم وتقنين وتجارة الاستقدام من وزارات العمل ومكاتب الاستقدام عندنا ومكاتب العمل الحكومية والخاصة والوسطاء في البلاد المصدّرة للعمالة.
هل يُعقل أن تصل تكلفة استقدام عاملة منزلية من سيريلانكا إلى 23 ألف ريال ومن الفيليبين 25 ألفاً؟ والأسوأ من ذلك أن لدينا مزايدات على نقل الكفالة تصل بها إلى ثلاثين أو أربعين ألف ريال، أليس في هذه شبهة تجارة بالبشر غير مشروعة ؟ ما دام الاستقدام في حد ذاته عملاً تجارياً مشروعاً ومرخّصاً، فلا بدّ أن التكاليف (أو الرسوم) الحقيقية في هذه التجارة محسوبة ومعروفة بكلّ عنصر فيها، أي تكلفة كلّ من: الوكيل المحلي في بلد العمالة - الوسيط - الفحص الطبي - أخذ البصمة - استخراج الجواز - رسم طلب التأشيرة من السفارة - تدريب العامل للتعريف بالبلد المستقدم وتدريبه على المهنة المطلوبة (للعمالة المنزلية على ما أظن) - رسم مكتب العمل الحكومي في بلد العامل - تكلفة تذاكر السفر المحلية والخارجية للعامل - وأخيراً تكلفة مكتب الاستقدام السعودي.
لابدّ أن وزارة العمل عندنا تدرك أن تكلفة الاستقدام الحاليّة غير معقولة ولا تطابق التكلفة الحقيقية. إن مما يبعث على الاستغراب - إن كان صحيحاً - أن تكاليف الاستقدم بدول الخليج الأخرى لا تزيد كثيراً على نصف التكاليف عندنا ! فما الذي يبرّر هذا الفارق الكبير؟ هل هم يفاوضون بحِرَفيّة باسم طالبي الاستقدام ولا يساومون ؟ هل بيئة العمل عندهم مرغوبة أكثر ؟ لكنّ المؤكد - كما يقول العارفون - أن دول الخليج متشدّدة في الرقابة على الالتزام بشروط عقد العمل - ومن ضمنها الالتزام بمدّة العقد - سواءً من جانب العامل آو صاحب العمل؛ وربما أيضاً لهذا السبب تظلّ ظاهرة الهروب والمتاجرة بنقل الكفالات بتلك الدول محدودة.
الذي يصل إلى علمنا أن المفاوضات بين الجانب السعودي الذي تمثله وزارة العمل وجانب البلد المصدّر للعمالة (الفيليبين مثلاً) اقتصرت على بحث حقوق العمالة - بما فيها الراتب الشهري الذي ارتفع فعلاً وزاد من العبء الاقتصادي على المواطن. والآن على الوزارة أن تلتفت لحقوق المواطن، فيما يخص الجانب التجاري (Business)، وأن لا تدع تُجّار العمالة المحليين يستفردون بمن يمثّلون مكاتب الاستقدام أو يمثّلون أنفسهم فيملوا عليهم السعر المقطوع الذي يناسبهم مستغلّين فجوة العرض والطلب على العمالة المنزلية، وربما أيضاً ليعوّضوا تقلّص الطلب على العمالة غير المنزلية الناتج عن تطبيق وزارة العمل لنظام (نطاقات)؟ فلماذا لا تترك وزارة العمل أصحاب مكاتب وشركات الاستقدام يفاوضون بشكل جماعي (يمثّلهم جميعاً وبرضاهم !) نظراؤهم في دول العمالة المنزلية وغير المنزلية - فإنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، ولديهم الخبرة في أساليب التفاوض واستعمال وسائل الضغط، مثل: الربط بين استقدام العمالة المنزلية والعمالة غير المنزلية (عمالة الإنشاء أو التشغيل أو الصناعة مثلاً)، أو إجراء منافسة بين عدة مكاتب عمل أو وكالات وساطة في بلد العمالة، أو عير ذلك من وسائل الضغط التي يتقنها المفاوضون- وذلك لتعديل تكاليف الاستقدام والتسريع بإجراءات ترحيل العمالة التي تستغرق شهوراً طويلة، وتضاعف معاناة طالبي الاستقدام، وتشجّع عصابات تنظيم هروب العاملات والمتاجرين بنقل الكفالات على ابتزاز المواطن.
لكنّ هدف التفاوض لا يتحقق دون مساندة قوية من وزارة العمل والسفارة - وخاصة إذا كانت الحكومة في بلد العمالة لا ترخّص إلا لعدد محدود من العاملات على فترات، من أجل أن يقلّ العرض مقابل الطلب المتزايد فترتفع التكاليف.
ومن أهمّ وسائل المساندة التي يؤكّد عليها أصحاب مكاتب الاستقدام فتح مزيد من قنوات استقدام العمالة (قليلة الماكل!) لتوسعة مجال المنافسة أمام الضغوط الاحتكارية، لا حاجة للتأكيد على ضرورة أن يمثّل المفاوض السعودي مصلحة طالبي الاستقدام من المواطنين لأنهم وكّلوه في الواقع، مثلما أن المفاوض من الجانب الآخر يحرص - بأية حجة - على مصلحة من فوّضوه.