د. عبد الله المعيلي
وبعد ذاك الليل الطويل المظلم من سطوة الحنشل وسيطرتهم على رقاب الناس وأمنهم، والصور المحزنة المفزعة الكئيبة من الخوف، وسيطرة الحنشل على معاش الناس وحياتهم، قيض الله للجزيرة العربية من كان سببا في إزاحة لباس الجوع والخوف عنها، وإعادة الطمأنينة والبسمة إلى نفوس الناس، فصار سكان القرى والأمصار يذكرون في مجالسهم، أنه خرج في العارض رجل يقال له: عبد العزيز بن سعود، سوف يعيد الأمن والأمان إلى ربوع الجزيرة، وسوف يقطع دابر كل من يعتدي ظلما وعدوانا، أو يسلب الناس حقوقهم وضرورات حياتهم الخمس التي تكفل الشرع الحنيف بحفظها والمحافظة عليها.
وبالفعل قضى الملك عبد العزيز رحمه الله بعد توفيق من الله، وعزم وحزم منه، على كل صور الحنشلة المتسترة القديمة التي كانت تؤرق الناس وتؤلمهم وتفسد معاشهم، فاستتب الأمن وعاش الناس في اطمئنان وأمان، لا خوف، ولا قلق، فرفع الناس رؤوسهم، وغمرت نفوسهم مشاعر العزة والكرامة، وصار الواحد يدافع عن حقه بكل شجاعة وإصرار، لا يخشى إلا الله، يعمل هذا وهو يعلم أنه مسنود بعد الله بهيبة الملك عبد العزيز وسلطته التي جعلت كل يقف في ظلاله، وبهذا نسوا تلك الصور البغيضة المفزعة من صور الحنشلة، التي طالما أقضت مضاجعهم، وطيرت النوم من أجفانهم.
وجد اليوم في حياة الناس صور حديثة من الحنشلة، لا حياء فيها، ولا مروءة، ولا رجولة، بل تتم في وضح النهار بكل بجاحة وسفاهة، وتحد واستفزاز، يمكن أن يطلق عليها الحنشلة المعلنة، «عيني عينك»، حيث يتعدى الحنشولي ويعتدي على الآخرين دون مراعاة لحقوقهم ومشاعرهم، ومما يزيد من ألم تلك التعديات، أن المعتدي لا يقبل أن يعترض أحد على تعديه، أو يستنكر فعلته، وإذا حصل شيء من ذلك، قابل الموقف بالمزيد من التعدي والتحدي والاستفزاز، ومن الصور التي أضحت مألوفة متواترة:
فوضى السير، ففي كل الدول المتقدمة، وكثير من الدول النامية، عندما يصل قائد السيارة إلى تقاطع فيه إشارة مرور، فإنه يقف بكل احترام وهدوء خلف من سبقه، مهما كان عدد السيارات التي أمامه، وعندما تضيء الإشارة خضراء فإنه يسير خلف من سبقه حتى يصل إلى الإشارة، وهكذا تتسرب السيارات الواحدة تلو الأخرى دون استفزاز أو تحين أي فرصة ليحشر سائق سيارته بين من سبقه، أما عندنا فإن الحنشل الجدد، لا يأبهون بمن سبقهم، بل تجد أحدهم يسابق إلى أقرب مسافة من الإشارة، ثم يحشر مقدمة سيارته سواء من جهة اليمين أو اليسار بين سيارات المقدمة، الثلاث أو الأربع التي لم تصل إلى مكانها إلا بعد انتظار قد يصل إلى عشر دقائق أو يزيد، وإذا أضاءت الإشارة مؤذنة بالمرور تقدم بسيارته دون استئذان من سبقه، بل يقوم بفعلته بشكل استفزازي يظهر فيه تحديه ومدى قدرته على التجاوز.
هذه الصورة الممعنة في تحدي الآخرين والتعدي على حقهم، تبدو أينما وجدت صفوف الانتظار، وانتظام الواحد تلو الآخر، في الأسواق المركزية، وفي المطاعم والمخابز، وفي محطات البنزين، ومن أسوأ صور الحنشلة نظام ساهر المتمثل في مضاعفة المخالفة.
هذه عينة من المواقف التي يحصل فيها تعد على حقوق الآخرين وتحد لهم واستفزاز، وغيرها كثير، والقاسم المشترك بين هذه المواقف، أنه لو اعترض أحد من المحترمين الواقف خلف من سبقه وطلب من الحنشولي الجديد أن يقف حيث يحق له، في مؤخرة الصف المنتظم، فإن كان الحنشولي إلى حد ما مؤدبا، أصابته حالة صمم وكأنه لم يسمع ويمعن في تعديه، وإن كان غير مؤدب وهم الأغلب، قابل المعترض برفع الصوت والسب والكلام البذيء، ويدخل في عرك لفظي يزيد الموقف انفعالا وربما تطور إلى مشاجرة وتعد بالأيدي.
لقد وفق الله الملك عبد العزيز وقضى على الحنشلة القديمة، والآن ينتظر المجتمع من سمو ولي العهد بصفته وزيرا للداخلية سن أنظمة وقوانين تقضي على صور الحنشلة العلنية البجحة التي تؤرق الناس وتستفزهم بتناميها حتى صارت ظاهرة لا تليق بالمجتمع السعودي.