د. جاسر الحربش
ما يبدأ جرح ألحقه بنا الإرهاب الطائفي في الاندمال، حتى يلحق بنا جرح غائر آخر، ثم تبدأ الاستنكارات والزيارات والتعازي من جديد. لا الاستنكارات ولا الزيارات والتعازي تقدم حلولا للتعافي من ظاهرة الإرهاب المتنكر بعباءات المذاهب، وإنما خلع العباءات المذهبية والتخلص منها، لصالح التعبد الخالص لوجه الله وحده دون تبعيات مذهبية وإكراهات مرجعية وانتقاصات حقوقية.
في يوم الجمعة الماضي انفجر الفرن الطائفي المذهبي في وجوهنا من جديد، هذه المرة في مدينة القديح بمحافظة القطيف، فاستشهد أكثر من العشرين مواطنا بريئا حضروا لصلاة الجمعة وجرح قرابة المائة. لا أعتقد بوجود أي شخصية مذهبية مهمة أو نافذة بين القتلى والجرحى، وعلى الأرجح كانوا كلهم من المواطنين الكادحين البسطاء.
بالتأكيد وعلى جاري العادة سوف يقول البعض من أتباع المذهب الشيعي لبعضهم، هذه جريمة أخرى يرتكبها نواصب مسيسون لخدمة الإرهاب المذهبي، وسوف يقول البعض من أتباع المذهب السني لبعضهم هذه جريمة إرهابية أخرى يرتكبها روافض مسيسون بأجندات خارجية. من غير المتوقع أن يبحث أي من الطرفين عن المستفيد الحقيقي من القتل على الهوية المذهبية في داخل مكونه الوطني الخاص. التهمة دائما جاهزة ومتوقدة مثل كرة النار، يتخلص كل طرف منها برميها نحو الآخر فورا وبدون تفكير.
علينا واجب البحث والإجابة عن السؤال التالي: متى يصل الانحراف في العقل المنحاز والمتعصب إلى ارتكاب جريمة القتل بالجملة وفي داخل مكونه الوطني، الديني والجغرافي والتاريخي؟. الجواب سهل، ذلك يحصل عندما تكون كافة الأطراف في هذا المكون مصابة بالإحباط والفشل التنموي والعلمي والحقوقي، مقارنة بعقول أخرى خارج الانتماء العقائدي والحضاري والجغرافي بالكامل. متى ما انصرف الناس إلى الإبداع والإنتاج العلمي والفكري لتحسين ظروفهم المعيشية توقفوا عن الاقتتال والعراك.
علينا أن نضع الحقيقة أمام أعيننا ونعترف بأن الشعور بالفشل والإحباط العلمي والتنموي والحقوقي في الدول ذات الهويات الإسلامية لا ينبع من مقارنة أوضاع بعضها ببعض، إذ إنها كلها شبه متساوية في درجات التخلف والتبعية والإحباط، وكلها تشتري لوازمها وحاجاتها المدنية والعسكرية الحديثة من خارج العالم الإسلامي. عندما يفشل الإنسان أمام الآخر، وبالذات الآخر الأجنبي غير المسلم، ويدرك أنه مهزوم، حينئذ يرتد على ذاته أي على مكونه الخاص، لكونه أصبح مسكونا بغريزة الانتقام البدائية من ذاته الفاشلة. هذا هو السبب الحقيقي للتخندق المتبادل بين الدول الإسلامية خلف المذاهب، ولتخندق الأقليات والأكثريات ضد بعضها في كامل العالم الإسلامي.
الدواء الوحيد الشافي من هذا المرض هو البدء في تحقيق الخطوات المقنعة والرافعة للمعنويات في التنمية الحضارية الذاتية عند كل الأطراف، بحيث ينتقل التنافس من مستوى الماضي المتصارع إلى مستويات المستقبل المتصالح.
لا توجد ندرة ولا حتى قلة في العقلاء والحكماء داخل المذهبين السني والشيعي لكن توجد للأسف كثرة في المستفيدين معيشيا واجتماعيا ووجاهياً من إبقاء التناقضات الطائفية في حالة اشتعال مستمرة. الطائفية المذهبية فرن اجتماعي يتكون من ثلاث طبقات، طبقة إدارية أساسية تتشبث بقاع الفرن، وطبقة توصيلية في الوسط وطبقة أتباع بلا رأي في سطح الفرن، وهذه هي التي تذهب هباء لكنها موعودة بالمكافأة في الآخرة. من الذي وعدها بذلك، الطبقتان الأخريان هما من أعطى لها الوعود بما لا تملكان حتى ولا لنفسيهما.
توجد ظاهرة غريبة في كل أنواع الاشتعال، تتلخص في كون الحرارة الأكثر ارتفاعا توجد في الأعلى، أي في السطح حيث اللهب المتطاير، سواء كان لهب الحطب أو لهب الصراعات الطائفية. حين تضع ترمومترا في قاع موقد وآخر في وسطه وثالثاً على سطحه، سوف تحصل على قراءات مختلفة. درجة الحرارة التي يسجلها ترمومتر السطح تكون أعلى بكثير من تلك التي يسجلها ترمومتر الوسط، وهذه أعلى من الحرارة المسجلة في قاع الموقد، ونفس الظاهرة تتكرر في أفران الصراعات الطائفية. مواقد الصراعات الطائفية في الدول المحسوبة انتماء على الإسلام، في الأقطار العربية وإيران وباكستان وحتى في تجمعات المسلمين المنغلقة على نفسها خارج ديار الإسلام تشتعل بنفس الطريقة. الطبقات السياسية في كل قطر إسلامي لا تشعر بحرارة النار في الأعلى، تتبادل الرسائل فيما بينها من تحت المواقد محاولة ابتزاز التنازلات من بعضها باستخدام نيران السطح، ولكنها تبقى في حالة تماسك نسبي ومنجاة من الاحتراق الحاصل في الخارج.
بناء على ذلك ما هو الحل للتخلص النهائي من النيران المذهبية والطائفية قبل أن تلتهم النار الأفران كلها بما فيها من طبقات؟. لا يوجد حل غير التوقف والكف عن التمصلح بالماضي لخدمة الحاضر على حساب المستقبل بما يشمل كافة الأقطار الإسلامية، والتركيز على النقلة العلمية والإنتاجية والحقوقية، وذلك من صلاحيات القيادات السياسية فقط وفي صميم مسؤوليتها، فهي التي في يدها اختيار العقول والقدرات ووضعها في الأماكن المناسبة، وهي التي باستطاعتها تجريم ومعاقبة التلاعب المذهبي بمصائر البشر والأوطان.