د.فوزية أبو خالد
أولاً، أقبل تراب الوطن، وأقبل جبين كل الأمهات، في مصابنا الوطني الجلل. وأعزي نفسي وأسرتي الصغيرة، وأعزي وطني الغالي شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً ووسطاً، عاصمة ومدناً وقرى شبراً شبراً وذرة ذرة. أعزينا شعباً وقيادة، وأعزي أسر ضحايا الجريمة الوضيعة النكراء فرداً فرداً.
أدعو الله أن يحسن عزاءهم ويجبر مصابهم ومصابنا جميعاً في ضياع أرواح المصلين الطاهرة لصلاة أول جمعة في شعبان. كما أدعو الرحمن الرحيم أن يرحم فلذات أكبادهم وأكباد الوطن كباراً وصغاراً، ويجعلها حاسمة الشرور وحاسمة التطاول على سلمنا الأهلي وأمننا الوطني.
***
يتكون مقالي اليوم من أربعة أركان هي بمثابة زوايا السقيفة التي تضم تحتها تراب الوطن بكل مكوناته البشرية في تعددها الاجتماعي والثقافي والمذهبي وفي توحدها الوطني، كما ترتفع فوق سمائها العالية راية التوحيد كرمز لوحدته الوطنية في دولة موحدة وأرض متواشجة في تلاحم يعمقه التنوع.
كلنا الوطن
على تويتر تحت لوحة جاءتني عبر الوتساب وقد التمع اسم القديح شمساً في قلب ذلك السواد الذي جللنا جميعاً به مصاب أهلنا فيها كتبت بدمعي ودمي تغريدة، (كلنا مستهدفون بالإجرام البواح الذي اعتدى على أرواح مواطنين سعوديين طاهرة بمكان عام في بيت من بيوت الله).
آلاف التغريدات جرى تداولها بما لا يحصى من إعادة التغريد في تظاهرة إلكترونية وطنية فريدة من نوعها لإدانة جريمة القديح ببصمات الأصابع العشرة وببصمة العين والروح معا. لم يبق ذو عقل ولا ذو عاطفة إنسانية ولا ذو ضمير إلا وبكى بكاء مراً على ما حدث في القديح وشعر أن خنجر الغدر قد غاص في ظهورنا جميعاً.
فما أصاب أهلنا في القديح مثل ما أصاب أهلنا في الدلوة ليس مصاب منطقة أو بلدة واحدة بل مصاب الوطن بأسره. فالشوكة في قدم طفل هي سكين في عيوننا جميعا لأن ما يهدد طفلاً في المهد أو تلميذاً في المدرسة أو مريضاً في مستشفى أو مصلٍ في مسجد أو إنسان في العمل أو في مقهى أو بمكتبة عامة، يهددنا جميعاً ويقل أمننا جميعاً. فيد التعصب عمياء لا تفرق بين شيعي وسني أو بين شرقاوي وجنوبي أو بين امرأة ورجل وإن تسترت على أهدافها السياسية بأقنعة طائفية وعملت على تأجيج نارها بالشحن الطائفي.
كلنا مستهدفون
لم يبق ذو عقل ولا ذو عاطفة ولا ذو ضمير إلا ويشعر أن جرس الخطر قد علق في عنق كل منا شخصياً. وأن مسجد الحي أو المدرسة أو موقع العمل أو أمكنة تسوق حاجاتنا اليومية أو حتى المستشفيات قد تكون الهدف التالي، فمن لا حرمة لديه لمسجد لن يكون لديه حرمة لمصحة علاجية أو لدار أيتام أو لبيوت الحي أو أسواق المدينة أو ملاعب الأطفال أوساحة احتفالات الأعياد أو حرم الجامعات. فكل مكان من الأماكن العامة مما قد تصله أيدٍ أثيمة لا تملك عاطفة وطنية ولا وازع ضميري ولا فكر مستنير يصبح مستباحاً ما لم توقف كرة النار عن التدحرج في جماجم فارغة وفي أجساد مفخخة لا تستطيع التفكير لنفسها ولا الدفاع عن نفسها من التحول إلى أدوات قاتلة لمدنيين آمنيين. وفي هذا المناخ الملغم بخطابات سياسية مستترة خلف نفخ مذهبي تعصبي ونفخ مذهبي مضاد لا يقل تعصباً يصبح كل منا دون استثناء سواء كان سنيا أو شيعياً مرشحاً لأن يكون الضحية التالية، إن لم نقل لا بصوت مشترك مستنير عال يقف في وجه تكرار الكارثة.
لئلا تتكرر الدلوة والقديح
لئلا تتكرر الدلوة أو القديح علينا ألا نتجنب أن نسأل أنفسنا عدة أسئلة صعبة. وسأكتفي بطرح بعض منها:
السؤال الأول، من المستفيد وما الذي يولم اليوم من أرواح المدنيين لعداء طائفي تمهيداً لا سمح الله إلى احتراب أهلي في هذا التوقيت بالذات وليس قبل عام ولا قبل عشرة أعوام أو عدة عقود للوارء ولا قبل ما يزيد على قرن من الزمان يوم انضمت القطيف عام 1913 بسلمية ورغبة من أهلها إلى لواء الدولة السعودية التي كانت لا تزال في طور التكوين، حيث لم تعلن ككيان موحد إلا العام 1932م!
لماذا؟ ومن يريد أن يحول التعايش الجغرافي والتاريخي والتداخل الوجداني والاجتماعي في اللحمة الوطنية للمجتمع السعودي إلى حالة من التنافر والتضاد وإلى كسر من التشظيات والتفتفت؟
لماذا تجري محاولة الخروج على تاريخ وطني مشترك بين السنة والشيعة في المجتمع السعودي بمحاولة إشعال شرر العداء بين السنة والشيعة بالمنطقة الشرقية في هذه اللحظة التاريخية المشحونة بدمار العراق وسوريا وليبيا واليمن وبتمزق شعوبها بين مطرقة أنظمة ساقطة أو آيلة للسقوط وبين سندان الإرهاب بهوياته الطائفية من حزب الله إلى داعش وما بينهما من بطائن نارية متشابهة في الشكل الميليشاوي وفي المضمون الطائفي التعصبي الإرهاب الأعمى؟
ما الذي يجعل الإرهاب الطائفي يتخطف منا شباباً في مقتبل العمر بعضه للتو خط شاربه وبعضه لا تزال عالقة به رائحة حليب أمه وبعضه في عمر الجامعة ليلقوا أيديهم إلى التهلكة فيصبحوا قتلة بدل من أن يكونوا رهاننا إلى مستقبل مشرق؟
ما الذي فعلناه بعد الدلوة ولم يكن كافياً لتعود أشباح القتلة التي طردناها من النافذة إلى مصارعة مزاليج باب أوسع؟
ما الإجراءات الأمنية وما القوانين وما العمل على المستوى الفكري والثقافي وعلى المستوى السياسي والمشاركة الوطنية التي نحتاج أن نرسيها لئلا نتفاجأ ولو بعد حين بعيد لا سمح الله بتكرار مصابنا في القديح!
كل منا دولة ومجتمع مسؤول عن الأمن الوطني والسلم الأهلي
فأمام جريمة غيلة مدنيين مسالمين ببلدة القديح في رابعة الضحى ووضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد إمعانا في تحدينا، لم يبق أي منا بمنأى عن المسؤولية في مواجهة هذا التحدي بتحد مزيد من التلاحم والعمل الوطني المشترك.
والمسؤولية هنا هي مسؤولية لازمة تخص كل منا وتعمنا جميعا. وهي مسؤولية لا تسقط عن المجتمع إذا قامت بها الدولة ولا تسقط عن الدولة إذا تصدى لها المجتمع بل لا بد من العمل المستقل والعمل المشترك معاً، فالأمر أخطر من أن تعزل مواجهته في جبهة واحدة أو بعقلية أحادية. ومن أهم محكاة مواجهة المسؤولية البحث فينا وليس فقط في خارجنا عما يمكن أن نتصدى له من أسباب تحفظ علينا السلم الأهلي والوحدة الوطنية والأمن والعدل للجميع.