اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
الدهاء هو جودة الرأي والحذق، يقول هنري لامانس، المستشرق البلجيكي الذي اشتهر بأبحاثه عن عرب الجاهلية والعهد الأموي، وألّف عدّة كتب في هذا المجال، أشهرها (الإسلام) و(من الإسلام) و(الجزيرة العربية الغربية قبيل الهجرة) وغيرها العديد من المؤلفات، يقول: (لم يكد العربي يستحق لقب الداهية، هذا اللقب العزيز الذي كثر الطامعون فيه، إلا إذا كان يملك موهبة الكلام محدّثاً وخطيباً، وفكراً جوّالاً كثير المصادر، غزير الموارد، قادراً على حل المعضلات وفصل المشكلات، وفوق هذا كله: ذمّة واسعة لا تحجم عن استخدام المكائد).
وأستطيع القول: إن صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، وزير الدولة، عضو مجلس الوزراء، المستشار والمبعوث الخاص لخادم الحرمين الشريفين، المشرف على الشؤون الخارجية، استحق لقب (داهية) بجدارة واقتدار، بكل معانيه القديمة والحديثة، ماعدا بالطبع الذمّة الواسعة، التي تستبيح لنفسها استخدام المكائد، فسعود الفيصل في سلوكه الخلقي، مثل والده الفيصل البطل الشهيد تماماً، كما هو مثله في أموركثيرة كما سنرى لاحقاً، يكره كل مكيدة، إلا مكيدة مع الأعداء تجيزها السياسة الشرعية، لأنها من طبيعة الحرب والسياسة.
و صحيح.. سبقني إخوة أعزاء كثر وأخوات من مختلف فئات المجتمع، منذ صدور تلك الأوامر الملكية الكريمة، فجر الأربعاء 11-7-1436هـ، الموافق 30-4-2015م، التي اشتملت على موافقة المقام السامي الكريم على طلب صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، إعفاءه من منصب وزير الخارجية لظروفه الصحية التي نعرفها كلنا ونقدرها، سائلين الله أن يلبسه ثوب الصحة والعافية، وقد بذل الجميع جهداً مقدراً لإعطاء الرجل حقّه، والاعتراف بما له من جميل في رعاية مصالح البلد العليا، ومصالح المواطنين في الخارج، والاضطلاع بدور مهم لبلاده في تعزيز الأمن والسلم الدوليين. كما تسابقوا في وصف ما تحلى به سموه الكريم من المكارم والمحامد، وعفّة اليد واللسان، وسعة الصدر، والحكمة والحنكة، ودماثة الخلق، وسعة الاضطلاع، وغزارة الثقافة التي مكّنته من الحديث في كل شأن كشلال منهمر، وذكاءٍ متقد، وبديهة حاضرة دائماً في كل المواقف، وحضور بهيج، وشخصية آسرة، ودقة في التعبير ووضوح في الرؤية، مما جعله يختار كلماته بعناية، بعيداً عن الإسفاف والغلو والغلظة، دونما انفعال أو صخب وضجيج.
كما تسابقوا أيضاً في وصفه، فتعددت آراؤهم وتشعبت بين سيد الحكمة، وأيقونة الدبلوماسية السعودية، وحكيم وزراء العالم، وأسطورة السياسة، وعميد وزراء الخارجية في العالم، والمعلم والأستاذ الأول للدبلوماسية السعودية الرزينة، وعرّاف السياسة وفارسها، وجامعة العلوم السياسية، وأمير السفراء، وسفير الأمراء، وفقيه السياسة، وأيقونة السياسة العالمية، ورفيق الملوك وعضيدهم، ومهندس الدبلوماسية، وربّان سفينة الدبلوماسية الماهر، والمفاوض الصعب، وعرّاب الدبلوماسية، وصاحب دبلوماسية الأخلاق الآسرة، ورائد الدبلوماسية المخضرم، وشيخ الدبلوماسية، ونازع الألغام، وغير هذا كثير من أوصاف صادقة، لا يستطيع الإنسان حصرها، استحقها سعود بكل ثقة وجدارة واقتدار، بل إن بعضنا اجتهد كثيراً في الوفاء بحق الرجل، فألّف كتاباً كاملاً، كما فعل الدكتور مطلق بن سعود المطيري، صاحب إستراتيجيات الإقناع السياسي في خطاب الأمير سعود الفيصل، كما عجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف عبارات الشكر والثناء لهذا الرجل الرمز الكبير في تاريخ الدبلوماسية السعودية، بل تعطلت لغة الكلام عند البعض، فعمد إلى الريشة ليرسم أجمل صورة معبرة، تغني حقاً عن مجلد كامل. ومهما كثرت وتنوعت وأخلص أصحابها فيها، فستبقى تلك الأوصاف قاصرة عمّا يجده كل واحد منّا في نفسه تجاه هذا الرجل الداهية العبقري الفريد، الذي هو بحق بألف من الناس، رافع الرأس في المحافل الدولية، خادم الإسلام والدار والناس وحاسم الرأي عندما يحتاس غيره، بما وهبه الله من عقل وبصيرة ومعرفة وفكر وأسرار الإحساس، كما أكد شقيقه الشاعر الفحل خالد الفيصل في قصيدته (بوح الأخوة) التي أنشدها قبل عامين من طلب سعود إعفاءه من منصب وزير الخارجية، إثر إجرائه عملية جراحية. ومن أصدق من خالد الفيصل لساناً، وأعذب بياناً وأوضح برهاناً، إذ يقول واصفاً قرم السياسة سعود، الذي لا قبله ولا بعده سعود في قصيدته تلك:
تفرق على غيرك بعقل وبصيرة
وبالمعرفة والفكر وأسرار الإحساس
ياما رفعت الراس في كل محفل
وياما حسمت الرأي إذا غيرك احتاس
والحقيقة ليس نحن هنا وحدنا في وطن الوفاء، الذين أسفوا لترجل سعود الفيصل عن صهوة الدبلوماسية السعودية، ولاسيما في هذا الوقت العصيب الذي تمر به بلادنا، كما عبر عنّا كلنا شاعرنا الفحل أخو سعود الوفي، دايم السيف:
قال الوداع.. قلت يا سعود بدري
قال المرض متعب ولا عاد بي حيل
قلت المرض كله تجمع بصدري
يوم أعلنوا ذاك الخبر تالي الليل
بل إن طائفة واسعة من زعماء العالم وسياسيّه الذين عملوا مع سعود الفيصل، فأدهشتهم قدراته ومواهبه واستعداده الفطري الذي صقله بجهده وطوره بطموحه وعلو همته، وحرصه على خدمة بلاده، وأسرتهم أخلاقه ونزاهته حتى في الخصومة، وسحرهم بيانه وقوة حجته ووضوح منطقه وتعدد ألسنته، وإلمامه الواسع بتعقيدات السياسة الدولية وصراع المصالح بين الشمال والجنوب، أقول.. إن طائفة واسعة من أولئك الزعماء والسياسيين، أبت نفسهم إلا أن يشاركونا حزننا على ترجل سعود الفيصل، مشيدين بمواهبه ومواقفه العقلانية المنطقية، وسعة أفقه وصدق حدسه، شاكرين له حسن تعاونه، وصدق نيته وتضحياته الجسمية من أجل تعزيز الأمن وترسيخ السلام في العالم، من جون كيري وزير خارجية أمريكا، إلى ديفيد ميلبند، وزير خارجية بريطانيا السابق، إلى برنار كوشنير وزير خارجية فرنسا، فالشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، رئيس وزراء مملكة البحرين، فالدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية، وغيرهم كثير من المثقفين والأدباء والكتاب والمحامين والأكاديميين من مختلف بلدان العالم الذين لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً ونقل ما قالوه في حق الرجل.
وبجانب هذا كله، تناقلت وسائل الإعلام العالمية شهادات مشرّفة لزعماء كبار، وآخرين كان لهم تأثير كبير، سلباً أو إيجاباً، في استقرار سلام العالم وتوطيد أمنه واستقراره، كلهم أثنوا على سعود الذي لا قبله ولا بعده سعود، كما أكد شقيقه خالد، وتمنوا أن يكون لهم رجال بدهاء سعود، يتحلون بمعرفته وخبرته وسرعة بديهته وهدوء أعصابه، وقدرته على الإقناع، معبرين عن دهشتهم من قدرته الفائقة على توجيه بوصلة السياسة إلى الجهة التي يريد.
والحقيقة، الشواهد على هذا كثيرة أيضاً، غير أنني أكتفي هنا بما قرأته من تعليق للرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، مع اتفاقنا جميعاً أنه يتحمل وزر ما تعانيه منطقتنا اليوم من صراعات ومحن تكاد تذهب بكل شيء. وللإنصاف والتاريخ، وجدت في رؤية صدام حسين لشخصية الأمير سعود الفيصل، قولاً بليغاً في كلمات معدودات، يلخص كل ما قاله الآخرون، ويحمل في طياته دلالات عميقة تصلح لتأليف كتاب كامل، تأكيداً على فهم عميق لشخصية سعود الفيصل، وقوة تأثيره على السياسة العالمية، التي ثبتت لصدام وغيره بالبرهان، إذ يقول: (عندما حاربت إيران، جمع سعود الفيصل العالم كله معي، وعندما دخلت الكويت، جمع سعود العالم كله ضدّي) فأي دبلوماسي يقوى اليوم على جمع هذين النقيضين، غير سعود الفيصل؟
وكما أسلفت، كفاني من سبقوني لشكر هذا الرجل والإشادة بمواقفه المذهلة ومناقبه العديدة، مؤونة البحث في كل ما اضطلع به من دور تاريخي في قيادة دفّة سياسة بلادنا الخارجية بحكمة وحنكة، كما شهد له كل من عاصره وعمل معه، في ظروف أقل ما يقال عنها إنها كانت شديدة التعقيد، فضلاً عن مساهماته العديدة التي تذكر فتشكر، في خدمة المنطقة والعالمين العربي والإسلامي، بل العالم أجمع. حتى إذا ترجل عن صهوة الجواد، خلّد سجلاً حافلاً بالعمل والإنجاز والنجاح المدهش الذي يحسده عليه العدو، وإن كنّا جميعاً لا نعرف له عدوّاً مطلقاً على المستوى الشخصي، ويغبطه عليه الصديق.
و لهذا، يعد سعود الفيصل حتى اليوم، الوزير الوحيد الذي حزن الشعب لترجله عن صهوة جواد الوزارة، فيما أعلم، وعجزت كل اللّغات أن توفيه حقه علينا وما أسداه من خدمة لبلاده وبلادنا جميعاً، وحق لنا أن نفخر بمثله ونعتز، كما أكد الشاعر خالد المريخي:
يحق لك يا السعودي أن ترفع الهامة
الله خلقنا هكذا مرفوعة هامتنا
هذا الوطن مكرمه ربّي بحكامه
ما عمرهم خيّبوا بالطيب هقوتنا
أقول، كثيرون كتبوا عن هذا الوزير المعتق، الذي طالما شكّل مجموعة ضغط لوحده، تعادل مجموعة الضغط اليهودية (اللوبي) في أمريكا، كما وصفه الأمريكيون أنفسهم. وقطعاً سيكتب آخرون كثر بعدنا، وسيجد كل منهم ما يستطيع قوله عن شخصية سعود الفيصل الثرّة المتعددة المواهب والقدرات، أما محدثكم، فقد آثر أن يختم مقاله هذا بثلاث وقفات، يرى أنها غاية في الأهمية.
الأولى: لمحة سريعة موجزة عن شخصية الشهيد الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، طيّب الله ثراه، الذي أنجب لنا، مشكوراً ومأجوراً، سعوداً وإخوته الأماجد الكرام، وتربى سعود في كنفه، ونهل من مدرسته، فتأثر بمنهجه، وسار على خطاه محاولاً التشبه به في كل شيء، حتى في المرض الذي أثقل خطاه، واضطره للترجل عن صهوة الجواد بعد صبر جميل، وعطاء جزيل، وإنجاز أقرب إلى المستحيل. ومرة أخرى كما أكد دايم السيف، مخاطباً سعوداً في قصيدته التي أشرت إليها آنفاً:
أخوي وأفخر بك عضيد ومسند
من نبحة الفيصل تشاركني الكاس
أجل، لقد كان الشهيد الملك فيصل، رحمه الله وجعل الجنّة مثواه، صاحب الصيحة المدوية: (نحن أصحاب تاريخ وتراث وأمجاد.. ديننا خالد، ومجدنا طريف وتالد،كان مكاننا في مقدمة الشعوب، فلن نرضى بأن نكون في مؤخرتها، وقدنا العالم بهدينا، فلن نقبل بالمبادئ المستوردة) كان الفيصل زعيماً عبقرياً نابهاً، ودبلوماسياً بارعاً، وسياسياً حكيماً، وقائداً عظيماً، داهية واسع الحيلة، قوي الأعصاب، شديد التمسك بقيمه ومثله العلياـ صاحب منهاج وفلسفة فريدة، عرف بالصبر والكتمان وعزّة النّفس، وعفّة اليد واللسان، يمقت العظمة والكبرياء، ويكره الذلّة والمسكنة، متواضعاً لدرجة أنه كان يتحرج في تواضعه مما يسمع من ثناء الناس عليه بالحق، مع أن غيره من الزعماء، يطلبون المبالغة في الثناء عليهم بما لا يستحقون، وأحياناً يعمدون لشرائها بقوت شعوبهم. بعيداً عن الغلو، واسع الأفق، راجح الحلم، في صفاء نفس وأدب رفيع.
و بجانب هذا كله وغيره مما اتصف به الفيصل من المحامد والمكارم التي يستحيل حصرها، كان الرجل صادقاً، لا يكره شيئاً مثل كراهيته للكذب، وقد أكد هذا المبدأ منذ اللحظة الأولى لدخوله الحياة العامة، يوم شغل أول منصب له في الحجاز، نائباً عن والده، وكان في أول شبابه، إذ أعلن للناس منهجه الذي جاء فيه: (إن أكثر ما أكرهه هو الكذب، الذي كرهه الله ورسوله، وإني لأكره أن أسمعه ولو من أحقر الناس، فحاشا لله أن أرضاه لنفسي).
و لهذا ليعلم كل من كان يظن أن السياسة لون من الكذب، أو الكذب لوناً من السياسة، على رأي ميكافيلي، يتيح الغدر والخيانة والجريمة في الحياة العامة، ليعلم أولئك إن سياسة الفيصل كانت أكثر صعوبة من سياسة القوم الذين يستبيحون الكذب والغدر والخيانة.
فلا غرو إذن إن اضطلع الفيصل بأعمال جليلة، تجل عن الوصف في خدمة بلاده والشعوب الإسلامية والعربية، والانتصار لقضاياها ومساعدة المؤسسات والأفراد وتعزيز السلم العالمي.
و لهذا اشتهر رجل سلام، وحاكماً حريصاً على قيم العدالة والإنسانية، ورجل دولة من طراز فريد، جعل الوفاق رائده، والحلم رفيقه، والعقل دليله، فحظي بتقدير رفيع من العالم كله، واكتسب ثقة عالمية، وحاز شرفاً لم يسبقه إليه أحد، إذ كان أصغر شاب في العالم تولى مهمة سياسية، كما كان أصغر قائد لجيش، وأصغر رئيس حكومة، وأصغر وزير خارجية في العالم، وهو صاحب أول بيان سياسي صادر عن الرياض، وكانت سنّه يومئذٍ حوالي الثامنة عشرة، وصفته جريدة المنار يومها بـ (أول بلاغ عام عن عاصمة نجد، بإمضاء نجل سلطانها، أرسل إلى أشهر الصحف في العالم الإسلامي) وتربع على عرش الحكومة وهو في التاسعة عشرة من عمره المبارك، وهو الذي وقّع ميثاق الأمم المتحدة ممثلاً لبلاده في سان فرانسسكو في 26-6-1945م، وألقى كلمة بليغة جاء فيها: (إن هذا الميثاق لا يدل على الكمال، كما كانت تتوقع الأمم الصغيرة التي كانت تأمل أن يحقـق المثل العليا، على أنه كان خـطوة كبيرة إليها، وسنعمل كلنا للمحافظة عليه، وسيكون الأساس المتين الذي يبنى عليه صرح السلام العالمي). فأصبح عميد رجال الدولة والسياسة لقديم اشتغاله بالسياسة والحكم. فملك القلوب بأخلاقه وكرم نفسه، كما أرضى العقول بعبقريته وحكمته وسياسته، فطبع الله محبته في القلوب، لما في قلبه هو من محبة للناس. فلا أحد ينكر فضله اليوم على هذه الأمة. وقد قال الشاعر علي أحمد باكثير معبراً عن تلك الحالة:
فتىً ساد في سن الحداثة حاملاً
على نفسه في المجد ما ليس يحمل
وما ناهز العشرين حتى انتهى إلى
يديه زمام الأمر، ما شاء يفعل
يصرف في طول الحجاز وعرضه
أوامر، طبق العدل، لا تتبدل
تراه رقيق الطبع حتى إذا انبرى
إلى الحرب، يوم الروع، فهو العميثل
و لهذا كان والده العظيم المؤسس الباني، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيّب الله ثراه، يردد كثيراً، كلما جاءت سيرة الفيصل، مقولته الشهيرة: (كنّا على حق حين أسميناه باسم جدّه فيصل) الذي ضحى بعرشه وسلّم نفسه للأعداء لقاء تعهدهم بأنهم لن يؤذوا شعب نجد، لا في أرواحه، ولا في ممتلكاته. ووصفته ملكة بريطانيا أليزابيث الثانية بـ(البطل القومي والسياسي العالمي) كما وصفه الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون بـ(الزعيم المحترم والحاكم الرشيد) ووصفه دين راسك، وزير خارجية أمريكا بـ (خير ابن لخير أب) ووصفه علي أحمد باكثير في قصيدته التي أشرت إليها آنفاً، بـالمشعل الذي يبدد الظلمة، إذ يقول:
إذا لجّ في الإشكال أمر ففيصل
وقد حارت الأفكار في الحلِّ : فيصل!
يجيل قداح الرأي في الخطب داجياً
فيجلو دجاه من سنا الرأي مشعل
و وصفه ابنه الشاعر الفحل المجيد، أخو سعود، خالد الفيصل في رثائية باكية، أجدها من أبدع ما قرأت من شعر الرثاء بـ (راس الرجاجيل) و(عزّ الشرف) و(وافي العهد) إذ يقول:
لا هنت يا راس الرجاجيل.. لا هنت
لا هان راسٍ في ثرى العود مدفون
والله ما حطك بالقبر لكن آمنت
باللي جعل دفن المسلمين مسنون
منزلك يا عزّ الشرف لو تمكّنت
فوق النجوم اللّي تعلّت على الكون
سكنت دار المجد يا شيخ واسكنت
شعبك معك في منزل العز ممنون
صنت العهد يا وافي العهد.. ما خنت
علّمتهم وشلون الاشراف يوفون
والحقيقة، مهما أبدع الواصفون، واسترسل المحبون في وصف الفيصل والثناء عليه، يظل الفيصل فوق الوصف، كما أكد دايم السيف في آخر بيت من قصيدته تلك، التي لو لا ضيق المساحة لأوردتها كاملة، إذ يصعب أن يكتفي الواحد منّا باجتزاء بعض أبيات منها هنا أو هناك:
مما بقلبي قلت يا بوي لا هنت
والاّ انت فوق القول مهما يقولون
ومثلما أخذ الفيصل تلك السجايا من والده المؤسس الملك عبد العزيز، كذلك فعل الأمير سعود الفيصل، الذي اجتهد كثيراً في السير على درب الشهيد الفيصل، مع شقيقه أبو بندر:
الراية اللّي رفرفت فوق يمناك
ابشرك يا شيخ ما طالها خصوم
ان كان قصد عداك تعطيل ممشاك
حقك علينا ما نوقّف ولا يوم
نسير في دربك ناخذ سجاياك
ونرد من هو ضد الإسلام ملطوم
نم هاني العينين حنّا تبعناك
والدّار فيها لابةٍ ما لهم نوم
ان قاله الله ما نضيّع لك مناك
نسجد لرب البيت في القدس ونصوم
فكان سعود مثل أبيه، لكثرة آثاره واتصال أعماله، وقوة حجته، ومضاء عزيمته، فصار اسمه على كل لسان، وتوطّد حبه في كل قلب، ووجد كل مؤرخ أو كاتب في أعماله مادة غزيرة لكتابة لا تنفد ولا تغيض. ولهذا فقد أحسن كل من شبّه سعوداً بوالده الشهيد الفيصل.
أما الوقفة الثانية في خاتمة مقالي هذا، فهي أمام برقية سيّدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه وسدّد على طريق الخير خطاه، ملك الحزم والعزم والحسم والوفاء، تلك البرقية الموجزة، التي تعد بحق بادرة جديدة في العلاقة بين القائد وجنوده في مختلف المواقع، التي لخّص فيها سلمان الأديب الأريب، الإداري الفذ، حياة سعود الفيصل وما اضطلع به من واجب عظيم لوطنه، خلال أربعة عقود بالتمام والكمال، كان سعود يصارع فيها جسده ويأبى أن يستجيب له مهما طلب الراحة. وقد استوقفتني في تلك البرقية عدة أمور، أوجزها في:
1ـ فكرة المبادرة نفسها التي تعبر عن إحساس عميق بالوفاء، ومن أوفى بيننا من سلمان، لرجل أعطى عطاءً قلّ نظيره، مع ما كان يعانيه من ظروف صحية صعبة، خاصة لمن يتولى مهمة كتلك، تتطلب سفراً دائماً، وعملاً دائباً، وسهراً وتعباً، ونفساً هادئة، وبديهة حاضرة، وذكاءً من طراز فريد.
والحقيقة، هذه أول مرة تحضرني فيها مبادرة كهذه، يثني فيها زعيم كبير وبطل همام في مقام سلمان، على أحد وزرائه، ترسيخاً لمبدأ الفيصل أخو سلمان ووالد سعود الذي كان يؤكد دائماً: قولوا للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت.
2- إشهاد المليك الله سبحانه وتعالى على ما تركه طلب الأمير سعود الفيصل إعفاءه من منصب وزير الخارجية في نفسه الكريمة من أثر، وإن كنّا لم نجرب على سلمان كذباً أبداً، إلا أنه في تقديري أراد أن يؤكد لسعود مكانته وتقديره لما قدمه من خدمة لدينه ووطنه وأمته.
3- وقد تأكد تقدير المليك حفظه الله، لخبرة سعود وإخلاصه وقدراته وما بذله من جهد في عمله طيلة تلك العقود، في قرار المليك الإبقاء على سعود قريباً منه، بتعيينه في منصبه الجديد، بل أقول مناصبه الجديدة.. فأي وفاء هذا الذي تعلّمنا إياه كل يوم يا سلمان!
4- الدقة في اختيار كلمات معدودة مشحونة بمعان عديدة، وكلما أعدت قراءة تلك البرقية الملكية الكريمة، رأيت بين كلماتها سعوداً يتوجه من غرفة العمليات مباشرة إلى غرفة الاجتماعات في المحافل الدولية، ليظل صوت بلاده حاضراً، مع أنه يضع حول عنقه جبيرة، ويتوكأ على عكازين، ويصعد سلم الطائرة وينزله دونما مساعدة من أحد، في إصرار عجيب على أداء الأمانة وخدمة الدين والمليك والوطن. ثم يتراءى لي مرة أخرى وهو يجلس لأربع عشرة ساعة في الطائرة حاملاً مكتبه معه، يقلّب الملفات ويحدد الأولويات. بل أكاد أجزم أنني لم أره يوماً متوجهاً إلى مكتبه في وزارة الخارجية ليجلس على كرسي وثير، لأنه في تنقل دائم، كما أكد المليك في برقيته تلك، بين عواصم العالم ومدنه حاملاً لواء وطنه، منافحاً عن مبادئه ومصالحه وخادماً لأمته.
والوقفة الثالثة والأخيرة، مع رد سعود الفيصل، رائد الدبلوماسية، وقرم السياسة، ونبع الثقافة، على برقية خادم الحرمين الشريفين، التي سبق الحديث عنها آنفاً، ولي معها أيضاً بعض وقفات، أوجزها في:
1- جاء رد الفيصل محتشداً بعبارات الشكر والثناء والامتنان، والتقدير والاحترام والعرفان لملك الوفاء سلمان، على مشاعره الصادقة الوفية المخلصة.. ومن أحق بكل هذا غير سلمان؟.
2- أكد الرد مدى تواضع هذا الوزير المعتق، وأدبه الجم، الذي يذكرنا بتواضع والده وأدبه، فهو لا ينسب لنفسه أي نجاح، مع أننا كلنا شهود على ما حقق لنا ولبلادنا من مكاسب ومكانة مرموقة بين الأمم. ولا يرى في كل هذا أكثر من جهد المقل، فللّه درّك يا سعود.
3- تأكيده على الإخلاص والوفاء والسمع والطاعة لقائده، وتجديد العهد ببذل مزيد من الجهد لخدمة الوطن، وإن اختلفت المواقع، إلا أن الالتزام بخدمة الوطن، يبقى رسالة سامية إلى الأبد.
4- الشكر والثناء على كل طاقم وزارة الخارجية الذين كان الفيصل يرأسهم، ومع هذا لا يرى نفسه غير واحد منهم، واصفاً إياهم بـ(الزملاء) وليس الأتباع، كما يفعل البعض ممن يسكرهم غرور المنصب. فعندنا هنا في بلاد الحرمين الشريفين، المناصب هي التي تزهي بشاغليها، وليس العكس، كما في معظم بلدان العالم. وبالجملة، كان رد سعود على برقية المليك المفدى، مفعماً بمعان عديدة، تؤكد للعالم مكانة هذا الرجل بيننا التي استحقها بكل جدارة واقتدار.
وبعد: صحيح يا سعود، قد تكون الشمس غربت، لكن ليس لأفول أبدي، بل لتشرق من جديد، فاسمك ذهب رنّان، تزيده الصعاب بريقاً ولمعاناً، وقطعاً سوف يظل صداه يتردد هنا، وفي سائر البلدان.
وأخيراً: أضم صوتي لصوت مجلس الأمة الكويتي، الذي دعا مشكوراً، الجامعة العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، إلى تكريم سعود الفيصل، تكريماً يليق بمكانته عند الجميع. كما أدعو كل المعنيين في الداخل، ولاسيما وزارة الخارجية السعودية، لتكريم استثنائي لهذا الرجل الاستثنائي، الذي حمل همها لأربعة عقود بالتمام والكمال، غير آبه بما أصابه من تعب ونصب، رافعاً رأسها في كل المحافل الإقليمية والدولية. وكم أتمنى من كل قلبي أن نشيّد صرحاً كبيراً بحجم مكانة سعود عندنا، فنسميه باسمه، تأكيداً لحبنا له، وتقديرنا لحسن صنيعه. وأضعف الإيمان، أن تطلق وزارة الخارجية اسمه على معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لها. وفي كل الأحوال، أرجو ألا نكون أقل كرماً مع سعود من كوريا الجنوبية التي أطلقت اسم وزير البترول والثروة المعدنية السعودي، الأستاذ علي بن إبراهيم النعيمي، على أحد شوارعها الرئيسية، وشيّدت له نصباً تذكارياً، تقديراً لتعاون وزارته معها في توفير الطاقة، وهذا شرف لنا جميعاً، لأن في تكريم أي مسؤول تكريماً لبلادنا.. وصحيح لسنا من أهل النصب التذكارية، لكننا نود أن يكون تكريم سعود الفيصل لائقاً به.
وأختم بدعوة أخوية صادقة، أوجهها للأخ صاحب السمو الملكي سعود الفيصل نفسه، مؤيداً كل من سبقني لشكره، بتوثيق تجربته لتكون مرشداً ودليلاً للعاملين في السلك الدبلوماسي اليوم، ونبراساً تهتدي به الأجيال القادمة، وأرى أن هذا حق لنا عليك يا سعود، أليس كذلك؟ والعشم فيك بحجم مكانتك عندنا، وإني على يقين أنك لن تخذلنا أبداً، فقد عرفناك طيلة مسيرتك فينا كريماً معطاءً.. حفظك الله وجزاك عنّا وعن الوطن والأمة خير الجزاء، ووفقك لمزيد من العطاء، ومتعنا بوجودك بيننا.. وتقبل من الشكر أجزله، ومن التقدير أصدقه، ومن الثناء أعطره، ومن الدعاء أفضله وأطيبه.