د. حمزة السالم
العملات اليوم ليست وعودا ولا تعهدات من الدول المصدرة لها. وإنما تستمد العملات قيمتها من مصداقية الدولة التي تدفعها وتجبرها للمحافظة على هيبة عملتها وقيمتها الشرائية. ومصطلح الدولة يشمل الجوانب كلها، النظام السياسي والاقتصادي والنقدي والاجتماعي. وأما الذهب فلا يعتبر وعدا ولا تعهدا من أحد مطلقا، ولا يمثله شخص ولا حكومة، وإنما يمثل نفسه، ويستمد قيمته من إيمان الناس بأن له قيمة، خارجة عن قيمة استخدامه لذاته. فالذهب لا قيمة له حقيقة في ذاته تميزه عن قيمة النحاس. وكقيمة الذهب الاعتبارية، فهي قيمة البيت كوين اعتبارية، كذلك. فإن مصدر قيمة العملة الرقمية العالمية البيت كوين هو إيمان الناس بأن لها قيمة، فلهذا أصبح لها قيمة. وعموما، فالعملات أي الأثمان لا يُعتبر فيها قيمتها الذاتية بل قيمتها المتفق عليها، سواء بوعد من قادر على الوفاء به، كالدولة، أو من إيمان مجرد بقيمتها بين مجموعة من المتعاملين.
فهناك قيمة حقيقية وقيمة غير حقيقية. فالقيمة الحقيقية للشيء تُحددها ندرته والحاجة إليه لاستخدام ذاته أو استهلاكها، كحديد ونحاس وتمر. وأما القيمة غير الحقيقية فتعمد على الاعتقاد بأن له قيمة. كالذهب وكالأسهم في الطفرات السعرية، وكمكائن الخياطة عندنا التي أُشيع أن فيها زئبقا نادرا، فصارت تباع بمبالغ خيالية وصار بعضهم يجمعها ويكتنزها طمعا في ارتفاع أسعارها، إن صحت الرواية.
ومكائن الخياطة قد تحيك بها لباسا ففيها قيمة حقيقية وإن كانت ضئيلة لا تقارن بقيمتها الاعتبارية غير الحقيقية التي بيعت به. وكذلك الذهب، فقد تصوغ منه سوارا، فيه قيمة حقيقية وإن كانت قيمة حقيرة مقارنة بقيمته الاعتبارية التي يعتقدها المؤمنون به بأنها قيمته الحالية.
والذي دفع أوائل المتعاملين بالبيت كوين للإيمان بها هو الأساطير التي يتداولها الناس عن مؤامرات البنوك المركزية وعن انهيار الأنظمة المالية وعن عودة الذهب. ونظرا لإبداعية الفكرة ومجالها كعملة دولية مستقلة انجذب إليها الأذكياء فمنهم ماط لشفته منصرف عنها، ومنهم من وجد فيها فرصة محتملة للثراء على حساب المغفلين. فهناك المحتالون الكبار الذين يقودون حملات الإعلام ويصنعون سوق صرف عملة البيت كوين كما يصنعون السوق التي تقبل بالبيت كوين كعملة لها. وهناك المغامرون وهناك المغفلون والمقامرون الذين يحلمون بثراء عاجل إذا ما اكتنزوا البيت كوين، وزاد الإقبال عليها وشحت مناجمها وكثر مكتنزوها، حتى أقسم أحدهم لتصلن الوحدة من البيت كوين إلى مليون دولار.
فالبيت كوين كالذهب، تنبع من اعتقاد الناس أن لها قيمة. ولكن من باب التعامل فهي كالعملات الحكومية، أرقام في حاسوب لا وجود لها. وأشبه عملة لها هي عملة الصندوق الدولي، حقوق السحب الخاصة، لا وجود حسي لها. وإن كانت البيت كوين تفرق عنها بأنها عملة متداولة بينما عملة الصندوق الدولي غير متداولة.
فبخلاف الذهب، وبخلاف عملة الصندوق الدولي، فإن البيت كوين عملة متداولة في بيع السلع وشرائها. وتداول البيت كوين رقمي كالتعامل ببطاقة الائتمان. فلا بد لمن يشتري أو يبيع بها أن يفتح محفظة أي حسابا في موقع الانترنت الافتراضي للبيت كوين. تماما كما يفتح التاجر حسابا للبطاقات الائتمانية في البنك أو عن طريق وسيط، ويكون عند الزبون بطاقة ائتمانية.
والبرنامج الحاسوبي الذي يمثل السوق النقدية الافتراضية للتعاملات بالبيت كوين، برنامج مبني على التشفير. ولذا فكل التعاملات بالبيت كوين، من شراء سلع أو تبادل عملات أو تحويلات، تعاملات مجهولة المصدر. والتعاملات المشبوهة أوجدت ملاذا آمنا في البيت كوين، كما أوجدت سوقا لها حقق رواجا لها من جانب وأعاقها من جانب آخر. فقد جعل البيع والشراء باستخدام البيت كوين نهائيا لا إمكانية لرجعة فيه في حال غش ونحوه.
كما أن صفة الرقمية الحاسوبية، وإن كانت السبب في عولمة البيت كوين إلا أنه قد سلط الهكر عليها. فالهكر قد يسطون على محفظة ما فيسرقونها، فلا يمكن متابعتهم.
وقد يتساءل متسائل، وما هي المنفعة المرجوة من التعريف بالبيت كوين فلا يتعامل بها عاقل ولا يستثمر فيها إلا مغفل، أو لا يكفي مغفلو الذهب. فالجواب بل إن هناك فرصا استثمارية عظيمة، وعالية الاحتمالية بالنجاح. ولكن بشرط أن يحافظ الإنسان على عقله فلا يفقده عندما يدخل عالم مهابيل وحمقى عالم العملات الرقمية. فرصة محتملة لاستغلال حمق الحمقى ما لم يكن المستثمر ضعيف المناعة ضد عدوى الحماقة. وهذا حديث السبت بعد غد كما وعدت مسبقا.