د.عبدالله مناع
كان طبيعياً أن لا يشعر أحد بـ (استقالة) السيد توني بلير من منصبه كـ (مبعوث) لـ (اللجنة الرباعية) لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس تطبيق مبدأ (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام)..!! الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية بعد غزوها للعراق.. لتهدئة خواطر أصدقائها العرب وطمأنتهم.. ليس أكثر، ثم نسيته فعلياً..
طوال ولاية (بوش الابن) الثانية، ولم تتذكره على نحو كاد أن يكون مثمراً.. إلا مع تولي (جون كيري) حقيبة الخارجية الأمريكية خلفاً لـ (هيلاري كلينتون) في ولاية باراك أوباما (الثانية)، حيث قاد (كيري) محادثات ماراثونية صادقة وجادة فعلاً بين: رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طيلة تسعة أشهر من العام الماضي (2014م)، إلا أنها تحطمت على يد (الاستيطان الإسرائيلي) المتوحش وغير المكترث في أراضي الضفة الغربية و(القدس الشرقية).. اللتين تمثلان أراضي الدولة الفلسطينية وعاصمتها المحتملة عند قيامها، ولم يفعل (البيت الأبيض).. شيئاً لإنقاذ مهمة (كيري).. ولو بـ (تصريح) يؤكد عدم شرعية الاستيطان في الأراضي الفلسطينية اتفاقاً مع الموقف الأمريكي التاريخي من النزاع، الذي كان يُحمد لها طوال سنوات القرن الماضي أو - حتى - استنكاره!؟ لتحترق مهمة (كيري) وينصرف آنياً عن القضية الفلسطينية.. ونزاعها، وربما إلى الأبد..!!
نعم.. كان طبيعياً أن لا يشعر أحد بـ(استقالة) بلير.. التي قدمها في السابع والعشرين من الشهر الماضي، فلم يفعل شيئاً.. طوال الثماني سنوات التي شغل فيها منصب (مبعوث اللجنة).. يخدم به أهداف مهمته في إنجاز (حل الدولتين)، فعلاوة على أنه لم يقم في منطقة النزاع أو في أي مدينة قريبة أو لصيقة بها كـ (نيقوسيا القبرصية) أو (بيروت) مثلاً تمكنه في سويعة من التردد على (تل أبيب) أو (رام الله): (عاصمتي) دولتي النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بل فضل البقاء في (لندن).. متمتعاً ببقايا الأبهة البريطانية التي غادرها بمغادرته رئاسة الحكومة البريطانية، وبالمرتب الخيالي الذي أخذ يتقاضاه، والذي انتقدت ضخامته الصحف البريطانية والإسرائيلية بحد سواء.. مستفيداً من بدلات السفر الخرافية إلى المنطقة كلما عنَّ له ذلك، وقد كان كثيراً ما يعن له السفر إلى (تل أبيب) أو (القدس الغربية) للقاء (نتنياهو).. أما الطرف الآخر وهو الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فلم يلتقه سوى مرة واحدة.. وبعد سبع سنوات من بدء مهمته كمبعوث للجنة الرباعية.. وقبل عام من استقالته!! إلا أنه كان يأتي إلى الضفة الغربية بين الحين والآخر - كما قال المفاوض الفلسطيني الأستاذ محمد اشتيه - لـ (التقاط الصور في مشاريع نحن قمنا بها أو قامت بها الدول المانحة) ليكون في قلب المشهد الاقتصادي الفلسطيني.. باعتباره - كما يدعي - صاحب فكرة (السلام الاقتصادي) بين إسرائيل والفلسطينيين، الذي استخف بها وبأهميتها أصلاً.. مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يهود باراك: (يوسي الفير).. عندما قال: (إن ربط التقدم في عملية السلام بتطوير الاقتصاد الفلسطيني.. كان افتراضاً خاطئاً، لأن الصراع سياسي وأيديولوجي قبل كل شيء.. وليس اقتصادياً).. وهو (الحق) وإن جاء على لسان إسرائيلي..؟؟
لقد كانت سنواته الثماني عجافاً دون شك، فلم يستفد الفلسطينيون طوال وجوده كـ(مبعوث للجنة الرباعية).. إلا بـ(مساعدته) في افتتاح (معبر الجلة) بالقرب من مدينة جنين في شمال الضفة الغربية.. أما ما عدا ذلك (فقد استخدمه الإسرائيليون لتبرير الاحتلال والاستيطان)؟! كما قال (اشتيه).. وهو ما جعل الفلسطينيين - في عمومهم - فضلاً عن بقية العرب.. لا يشعرون به أثناء ممارسته لمهام وظيفته.. فضلاً عن الشعور بأي قدر من الـ (أسف) على استقالته، وهو ما عبر عنه عضو اللجنة المركزية ووزير الخارجية الفلسطيني الأسبق (نبيل شعث).. عندما قال وبصريح العبارة ودون أدنى مجاملة لا يستحقها بلير: (هذا الرجل لم يقدم أي شيء للقضية على مدى 8 أعوام)!! وهو ما عبر عنه المفاوض الفلسطيني الأستاذ محمد اشتيه.. بأكثر الكلمات صراحة وإيلاماً عندما قال: (نحن سعداء.. وكان على صاحبها أن يقدم استقالته منذ زمن طويل)!! ليصيب أستاذ العلوم السياسية بجامعة (بيرزيت) الدكتور سمير عوض قلب الحقيقة تعليقاً على استقالة بلير.. عندما قال: (إن رئيس الوزراء السابق للحكومة البريطانية لم يكن مبعوثاً للرباعية عملياً.. بل كان مبعوثاً أمريكياً وإسرائيلياً، وانحاز بالمطلق للاحتلال)..!!
فقد كان ترشيحه أساساً لهذا المنصب سكرتيراً أو (مبعوثاً للجنة الرباعية للشرق الأوسط) من قبل الرئيس الأمريكي (بوش الابن) عام 2007م.. هو (سداد) لفاتورة تأجل سدادها لـ (توني بلير) زعيم حزب العمال البريطاني ورئيس وزرائها الأشهر لدورتين آنذاك - وليس استنجاداً بكفاءته السياسية ومعرفته التاريخية بـ (جذور) الصراع الفلسطيني الإسرائيلي - مقابل (كذبته) الكبرى المدوية على العالم وعلى البريطانيين أنفسهم.. عندما قال في (مجلس العموم البريطاني) عام 2003م: بـ (أن أسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق آنذاك قادرة على تدمير بريطانيا في خمس وأربعين دقيقة)!! فكانت (كذبته) أو كلمته هي تأشيرة العبور لغزو العراق.. التي كان ينتظرها ويتمناها (جورج بوش الابن) وسط ذلك الجدل الضاري في مجلس الأمن - والمنقول على الهواء مباشرة - بين: الدبلوماسي (دومينيك دوفيلبان) وزير خارجية فرنسا المعارض لغزو العراق والممثل لأمم الأرض في معارضتها للغزو.. والجنرال (كولن باول) وزير خارجية الولايات المتحدة.. العسكري المتعطش لـ(الغزو) ولـ(نفط العراق).. فكانت كلمة (بلير) التي أطلقها من (لندن) هي طوق النجاة لـ(بوش الابن) وأحلامه الإمبراطورية التي جاءت به إلى الرئاسة الأمريكية أصلاً، ليذهب إلى غزو العراق بصحبته وصحبة الإيطالي (برلسكوني) والأسباني (أثنار)، وليسدد فاتورة (بلير) بعد سقوطه من عرش (داوننج استريت) عام 2007م، وانطفاء الأضواء من حوله وضمور دخله إلا من معاش تقاعدي لا يكفي ولا يفي بمتطلبات مظاهر الأبهة والفخفخة التي اعتاد عليها في أشهر منازل الحكم في العالم - 10 داوننج استريت - طوال دورتيه السابقتين، لذلك كان (بلير) شديد الامتنان لـ(بوش الابن) وللولايات المتحدة اللذين أبقياه - بذلك التعيين - في حلبة الأضواء ورغد المخصصات والبدلات التي تقرر منحها له باعتباره رئيساً سابقاً لوزراء بريطانيا.. وليس دبلوماسياً عادياً حتى وإن كان بـ(مرتبة وزير)، ولذلك.. فقد كان بلير في مهمته - من باب رد الجميل - (مبعوثاً أمريكياً).. بأكثر منه (مبعوثاً دولياً) للجنة الرباعية، وكما قال عنه أستاذ العلوم السياسية الدكتور سمير عوض.. بعد استقالته!! بينما كان العالم.. يُحسن الظن بتعيين هذا السياسي البريطاني الكبير لهذه (المهمة)، باعتبار أن (بريطانيا) العظمى هي (المؤسس) لهذا النزاع العربي اليهودي في مبتداه بـ(وعد) جيمس بيلفور وزير خارجية بريطايا المحافظ - عام 1917 - بـ (إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين)، فـ (الراعي) له طوال سنوات انتدابها على فلسطين والتي انتهت عام 1948م بتسليم أجود الأراضي والمدن الفلسطينية لـ (إسرائيل) دولة اليهود الجديدة، وأن التاريخ ربما أراد بتعيين (بلير) في هذه المهمة أن يمحو خطيئة بيلفور بـ (الوعد).. ليقيم هو (الدولة الفلسطينية) أو يساعد على قيامها في الأقل..!
لقد ذهب حسن الظن بهؤلاء بعيداً.. فلم يفعل بلير - المندوب الأمريكي - في اللجنة الرباعية شيئاً يذكر غير القليل الضئيل، الذي جاء على ألسنة المسؤولين الفلسطينيين القريبين من اللجنة الرباعية وأعمالها.. وظل صامتاً عموماً طوال السبع سنوات الأولى من عمر مهمته.. إلا أنه تذكرها في إبريل - ما قبل الماضي - أسوأ تذكر عند إلقائه محاضرته (لماذا قضايا الشرق الأوسط هي قلب قضايا العالم) في إبريل - ما قبل الماضي - عندما قال دون خجل أو حياء: (حديثاً خدمتنا «أوكرانيا» بدفع قضايا الشرق الأوسط إلى الصفحات الداخلية)..!!
أهذا هو كل الذي كنت تريده وتتمناه يا (توني بلير)..؟!
لقد أراد (التاريخ) أن يخدمه.. ببقائه في (موقعه) مع خروج (بوش) بصهيونيته، وقدوم (أوباما) بفكره الناقم على الاحتلال الإسرائيلي وذله للفلسطينيين - كما جاء على لسانه في خطابه الشهير في جامعة القاهرة في شهر يونيه من عام 2009م- ، ليسطع ويلمع فوق صفحاته بهذا الإنجاز الكوني الكبير إن استطاع.. وبما يفوق إنجاز بيلفور (الظالم) بـ (الوعد)، أمام إنجاز بلير (العادل) بـ (قيام) الدولة الفلسطينية.. أو المساعدة الحقيقية على قيامها، ولكنه أبى هذه المكانة.. ليقدم (استقالته) التي لم يشعر بالأسف عليها أحد، والتي كانت بحق.. وكأنها (إعلان وفاة) لسياسي واعد خذل نفسه بأكثر مما خذلته ظروفه!!