د. فوزية البكر
لماذا المدرسة؟ لأن هناك أكثر من خمسة ملايين متعلم بين ذكر وأنثي، إضافة إلى طاقم هائل من المعلمين والاداريين لا يقل عن نصف مليون وهذا فقط في التعليم العام (من الابتدائي حتى الثانوي)، وإذا أضفت له القطاع الجامعي فإننا نتحدث عن نصف سكان المملكة تقريبا والذي تجمعهم كل صباح مؤسسات تربوية معروفة لنا يمكن لها أن تكون خط الحماية الأول ضد كل تطرف أو تهديد للوطن.
وليس ذلك فقط بل هي المصنع الأول للطاقات البشرية المتجددة التي تبقى إلى الأبد عكس الثروات المادية التي هي في النهاية (مؤقتة) مهما أمدتنا من أموال غير متجددة مثل البترول.
لكن كل هذا يتطلب إستراتيجيات تعليمية وتربوية صادقة وذات شفافية عالية في عملياتها ومخرجاتها وتركز على التعلم والنماء لا على الأيدلوجية والتوازنات السياسية، كما هو تعليمنا اليوم، اعترفنا بذلك أم لم نعترف والنتائج المحزنة لطلابنا في الاختبارات العالمية والمحلية في مواد أساسية مثل القراءة والرياضيات والعلوم لا يدع مجالا للشك في ما تفعله (المدرسة السعودية) من تجهيل واستنزاف للموارد لا يحقق عوائده المنشودة، بل على العكس يربي من هم ضد أمتهم وضد العالم أجمع.
في تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة نشر عام 2009،ج1 (ص36) تحت عنوان التحديات التنموية في البلدان العربية، وفي الفصل الخاص بالتحديات التي تواجه الأنظمة التربوية تحديدا، أشار التقرير إلى أنه ورغم أن معظم البلدان العربية بما يفها المملكة قد صرفت الكثير من ميزانياتها علي التعليم، وخاصة التعليم الأساسي، إلا أن كافة هذه البلدان دون استثناء فشلت في تحقيق حتى الحد الأدنى من مستويات الكفاءة المطلوبة، سواء على المستويات المحلية أو مستويات الكفايات اللازمة للتنافسية في عالم معولم.. وأكد التقرير أن من أهم الكفايات المطلوبة تعميمها من خلال أنظمة التعليم هي تلك المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم اللازمة للعمل في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية للمجتمعات الحديثة حتى يضمن العالم كله (وليس كل بلد) أمنا ورعاية لكافة موارده البشرية والبيئية.
العالم اليوم متواصل بشكل مريع، ولم يعد لنا خيار أن نعيش في مدن حديثة البنيان لكن في ظل شروط القرون الوسطى كما نفعل اليوم؛ لأن ذلك يعني ببساطة تدمير الحضارة الإنسانية والذي لن يتركنا العالم نقوم به كما نفعل اليوم بل سيحاصرنا داخل أقبية القرون الوسطى (وهوما يفعله الآن) ثم يتركنا نتصارع على خلافات صحابتنا رضوان الله عليهم، فهذا مع علي، وهذا مع معاوية، والعالم يتفرج حتى يبيد بعضنا البعض فيرتاح الجميع من تلك الأشباح التي لا ترضي بان تعيش بسلام ولا أن تترك الآخرين يعيشون!
أعرف أننا جميعا قد نتحدث بعمومية من خلال مواقعنا وخبراتنا المباشرة وهذا بالضبط ما أفعله؛ لذا سأتحدث فقط عن المؤسسات التربوية ودورها المحتمل والمقترح للملمة بعض هذه الفوضى المخيفة التي تحيط بنا!
اول هذه الاستراتيجيات هو نزع فتيل التسيس الذي قتل المدرسة السعودية ولنفكر في التلاميذ ككائنات واعية تبحث عن المعرفة ولديها حب الاستطلاع الطبيعي الذي زرعه الخالق فينا (وهو سبب بقائنا على أرضه لنعمرها بأن أمدنا سبحانه بالخيال والرغبة في السيطرة على ما يحيط بنا من قدرات، ثم بالعقل لحل المعضلات وفك اسرار الطبيعة من حولنا) إذا آمنا بحق الطفل/ الانسان في التعلم، إذا نظرنا لكل الأطفال: أسمر أو أصفر أو بني أو أفطس أو أبن أل أو بلا أل وبأرصدة بنكية متضخمة أو بفقر مدقع يتساوٍ وصلنا إلى تفعيل فكرة جليلة حمت الأمم من الانهيار: حق الجميع في التعلم دون تمايزات أو امتيازات. الحق في التعلم يجمع الجميع، وهذا الحق يعرف ان المصادر المتاحة ليست واحدة للجميع، لذا ورغم أننا نتطلب مستويات متقاربة من مخرجات التعليم من القدرات المعرفية والرياضية والاجتماعية تفرضها المستويات العالمية (وليس المحلية فقط) (أي قادرة على التنافس في عالم العولمة الشديد التنوع) إلا أننا نعرف أن المتعلمين ليس واحدا فيما يتاح لهم من موارد أسرية أو اقتصادية وغيره لذا يجب أن نوفر المساعدة لكل طفل لا تمكنه ظروفه من الوصول إلى هذه المستويات، وهذا يعني وكما صرخ بها التقرير الأمريكي المشهور الذي تبناه رئيس الولايات المتحدة بوش الابن: لا نسمح أن يتخلف أي طفل عن الركب (نو تشايلد بهايند).. لماذا؟ حتى لا يسقط في وحل من يقدم له التعاطف الآثم، كما أسقط هؤلاء الإرهابيين الذين ساهم تعليم القرون الوسطي في إضاعتهم وتهديد أمننا.
كيف نساعد الجميع للوصول لهذه المستويات؟
بتقديم المساعدة الإضافية التي يضمنها النظام وليس الأهل عبر المدرسين الخصوصيين وبرامج الاثراء وبالتركيز ليس فقط علي التحصيل الاكاديمي بل على النشاط الرياضي والعلمي والفني والتشكيلي: ببساطة خلق انسان متكامل قادر على فهم عالم اليوم وقبول شروطه الحضارية والمساهمة في بنائه والمحافظة على موارده. هذا يعني ألا تكون هذه الأنشطة فقط تكميلية أو استعراضية أو كما تسمى (أنشطة لا منهجية). كلا بل هي في قلب المناهج الدراسية وتنطلق منها (بالطبع حديث المناهج هو سياسي في عمقه ويحتاج إلى شجاعة أسد للدخول في صولاته؟!)
بقي أمران هما الأكثر أهمية الآن: الأول: المعلم من حيث إعداده وتدريبه أثناء الخدمة: مراجعة شاملة لكل هذه المواد البائدة التي يتجرعونها بالقوة وربطهم بما يخلق معلما مخلصا لمهنة سامية بالتركيز علي خلق الوعي الاجتماعي ونشر فكرة الشمولية الثقافية مع احترام الخصوصية.
ثانيا: لن يتمكن هذا المعلم من معرفة ما عليه أن يعمله إلا إذا كانت اهداف ما يجب عليه عمله واضحة في ذهنه لكن كيف يكون ذلك إذا كانت سياسة التعليم وأهدافها نفسها قد وضعت قبل خمسين عاما ولم يمسها أحد منذ ذلك الحين وحتى الآن وكأنها كتاب منزل.. لماذا؟ لأنها ظهرت مسيسة في عمقها فلم تفلح في خلق الانسان المتعلم. فما هي مشكلة هذه السياسات؟ هذا سيكون موضوعنا ليوم الخميس القادم.