أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(16 - موسى، والبحر، وتيه بني إسرائيل)
أين يذهب (د. كمال الصليبي) من اسم (موسى)، وقِصَّته التوراتيَّة، اللذين استنتج منهما بعض الباحثين أصلًا مِصْريًّا لشخصيَّة النبي موسى واسمه، لا عبرانيًّا، فضلًا عن أن يكون عربيًّا عسيريًّا؟! وهو ما حَمَلَ (سيجموند فرويد)- اليهوديّ المحتِد- إلى وضع بحثه حول موسى، مرجِّحًا أنه نبيلٌ من أصلٍ مِصْرِيّ، لا عبرانيّ؛ فاسم «موسى» هو اسم مِصْري، بمعنى: «طفل». وهو اسمٌ عريقٌ في التسميات المِصْريَّة والأوابد الفرعونيَّة، كـ(آمون موس)، أي «الطفل آمون»، و(بتاح موس)، أي «الطفل بتاح»، وكذا في أسماء ملوك الفراعنة المشتقَّة من أسماء بعض الآلهة، مثل: (أحموس)، و(تحوتموس)، و(رعموس). إضافةً إلى قِصَّة (موسى) التوراتيَّة نفسها التي رأى فيها (فرويد) جذورًا مِصْريَّة بيئيَّة وثقافيَّة.(1)
كلّا، صاحبنا لا يلتفت إلى مثل هذه الترّهات!
ولمّا قاد موسى العبراني «العسيري!» قومه، كما زعم الصليبي- وذلك بعد 430 سنة وهم متراصِّين كالذَّرِّ بين (أبها) و(الخميس)، في تلك (المصرمة) العجيبة- للخروج إلى أرض (كنعان) على حدود (الحجاز)، تاهوا بين ذلك في البريَّة (40 سنة)!(2) وتلك هي «أرض التِّيه»، حسب الصليبي، لا صحراء (سيناء). والطريف أنه لما أتى على النصّ التوراتي الذي يذكر بوضوح طُور سيناء: «جبل سيني»، وحينما لم يجد جبلًا بهذا الاسم شَمال عسير، قال إنه وادٍ اسمه (سيَّان)، في (اليَمَن)؛ لأن الوادي يمرّ من جانب جبل! لم يجد الجبل فصار الجبل واديًا! وطبعًا، ما من وادٍ إلَّا هو يمرّ بجانب جبل! فزعم أن ذلك الجبل هو الذي رأى فيه (موسى) نار الإل?ه؛ لأنه جبل بركاني! والنار التي رآها موسى نار بركان، كما زَعم! ولا تسأل ما الذي ذهب بموسى جنوبًا إلى وادي سيَّان في اليَمَن؟ فالصليبي هو الذي ذهب إلى سيَّان، لا موسى! والسبب واضح وهو أنه لم يجد اسمًا مناسبًا أقرب، يقع إلى شمال (المصرمة)، ليزعم أنه (طُور سيناء)، فاضطرّ إلى الاتجاه جَنوبًا هذه المرَّة.
أجل، وقد تاه (بنو إسرائيل) 40 سنة، مع أنهم كانوا فقط يريدون النزوح من المصرمة بين أبها والخميس إلى (الفلسة) في (خثعم)! أمّا (أورشليم)، فقد شرح لنا من قبل أنها تقع في (النماص)، في قرية (آل شريم)، ليست لا في الفلسة، ولا في (فلسطين) طبعًا! إنها لمتاهة فعلًا أشدّ من متاهة بني إسرائيل في (شِبه جزيرة سيناء)، كما ضحك علينا التاريخ والنصوص عبر الدهور!
ثمَّ لا تسأل أيضًا: كيف تاه أولئك القوم (40 سنة) في البريَّة، بالرغم من قوله في مكان آخر- تقدَّم ذِكره- إن إخوة (يوسف) كانوا يقطعون تلك البلاد بغنمهم يوميًّا غدوًّا ورواحًا؟! بل كانوا يَصِلُون إلى أبعد منها؛ فكانوا يسرحون صباحًا من ضواحي (القنفذة)، ويتغدَّون في (الدَّثْنَة) في جبال (فَيْفاء)! حتى إنك لا تدري أ كانت أغنامهم ترعى، أم كانت تَسْبَح في الفضاء كالطيور المهاجرة! بل إن الطيور المهاجرة قد لا تقطع تلك المسافة كلّها في يوم واحد.
إنه التناقض، وتيه الهرمنيوطيقا!
إن المسافة (المتاهة)، التي قضَّى فيها بنو إسرائيل 40 حولًا، كانت أقصر من المسافة التي زعم المؤلِّف من قبل أن الطفل يوسف قد ركض وراء إخوته بطولها في سويعات، من (خربان) في منطقة القنفذة إلى (الكشمة) في (رجال ألمع)، وأخيرًا «قَفَشَهم» في الدَّثْنَة في جبال فَيْفاء، وما تاه هنالك ولا استراح! فما قَطَعَه يوسف في نحو (4 ساعات)، تاه في قرابة نصفه بنو إسرائيل (40 سنة)!
وهكذا فـ(الصليبي) إذا شاء مطّ الأرض على نحوٍ خرافي، وإذا شاء اختزلها حتى تصبح مرعى غنم أبناء يعقوب، ومركض الغلام الصغير يوسف. وهي تناقضات لا يفسِّرها لك سوى هوس الرجل بالأسماء وتشابهاتها حيث عثر عليها، وبلا تفكيرٍ بعدئذٍ في أيّ شيء؛ فلقد أعماه ذلك عمّا يقول، وعن معقوليَّة ما يفترض وتناقضات مقتضاه.
ولعلَّه، وقد أدرك هذه المفارقة التي قارفها، حاول علاجها ولكن بدعوى أخرى أعجب منها، هي قوله إن المِصْريّين لم يسمحوا لبني إسرائيل بالخروج إلَّا شريطة أن يتوجَّهوا شَمالًا إلى (الحجاز)، لا شرقًا إلى (اليمامة)! أي أن يتوجَّهوا إلى (الفَلَسَة/ فلسطين) مباشرة، وأورشليم في النماص. تَراه يذهب إلى هذا مع أن المعروف، حسب قِصَّة الخروج، أن بني إسرائيل خرجوا منتصرين على فرعون، بعد الأوبئة التي ضربت المِصْريّين وتلك البلايا التي أُصيبوا بها من الدم، والضفادع، والجراد، و«الدُّمَّل»- (حسب الرواية التوراتية، (سِفر الخروج)، أو «القُمَّل»، حسب الوارد القرآنيَّة، (سورة الأعراف)- والبعوض، والنار، والبَرَد، إلى آخر ما جاء في آيات (موسى وهارون) لإنذار فرعون. ثمَّ كانت معجزة الغَرَق. أ لم يَرِد في (سِفر الخروج، الإصحاح 15: 20- 21)، في تصوير احتفال بني إسرائيل بالخروج:
«وأجابتهم مريم: رنِّموا ليَهْوَه فإنه قد تعظَّم! الفَرَس وراكبه طرحهما في البحر».
فأي بحرٍ هناك بين عسير والنماص؟ أو بين عسير وخثعم؟ أو غيرهما في الشَّمال أو الشرق من قرية المصرمة الخياليَّة، التي لم يطمثها ذِكْر قبل الصليبي من إنسٍ أو جان؟! أيُّ بحرٍ يقع في شرق تلك المصرمة على الإطلاق؟!
لا ريب في أن ثمَّة بحرًا مذكورًا في التوراة شرق بلاد (مِصْر)، التي كان فيها موسى وقومه؛ فها هو ذا (سِفر الخروج، الإصحاح 10: 19) يقول:
«فَرَدَّ الرَّبُّ رِيحًا غَرْبِيَّةً شَدِيدَةً جِدًّا، فَحَمَلَتِ الجَرَادَ وطَرَحَتْهُ إلى بَحْرِ سُوفَ. لَمْ تَبْقَ جَرَادَةٌ وَاحِدَةٌ في كُلِّ تُخُومِ مِصْرَ.»
فأين بحر (سوف) هذا؟
إنه (البحر الحمر)، وتحديدًا (خليج السويس) منه. وما زال لفظ «السِّيفُ» يُطلق في العربيّة على: ساحل البحر. وما زال يقال: أَسافَ القومُ: أي أَتوا السِّيف. والسِّيف كذلك: الموضع النَّقِيُّ من الماء.(3) ولعلّ هذه المادة اللغويَّة كانت من أسماء البحر الساميَّة القديمة. غير أن صاحبنا، إذ لم يجد ذلك البحر باسمه، حكم أنه مكان أخبره به مدرِّسٌ لبنانيٌّ، من غير ذوي الاختصاص، وأنه باسم «بحر صافي»، في الشَّمال الغربي من رمال الربع الخالي.(4) إنه مسعفٌ آخر، إذن، يستنجد به الصليبي، بعد صديقه الباحث (فرج الله صالح ذيب)، الذي رأيناه يستعين به من قبل. أمَّا هو، فيظلّ حظُّه من العِلْم الاكتفاء بشرف النقل والرواية، لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت!
بذا أصبح (الربع الخالي) وقد صار: (البحر الأحمر)!
أمَّا ما تلقَّفه الرجل عن «المدرِّس اللبنانيّ، من غير ذوي الاختصاص»، فالصحيح فيه أن الكلمة: «سافي»، لا «صافي». ذلك أن السَّوْفَةُ والسَّائفةُ: من الرمل أَلْيَنُ ما يكون منه. والرمل السَّافي: الذي تسفوه الرياح.(5) ولا نعلم متى سُمِّي ذلك الرمل بهذا الاسم، لكن ما دام «المدرِّس اللبناني، من غير ذوي الاختصاص» قد أمدّ المؤلِّف بهذا، فليكن كما قال، وبلا تردّد، وليكن الرمل بحرًا، وبلا مراء!
وأمَّا مفردة «بحر»، فلا تُطلَق في العربيَّة على بحر الماء فحسب، بل قد تطلق أيضًا على الأرض الواسعة، والرِّيف. وقد تُسمِّي العرب المُدُن والقُرَى: البِحار. والبَحْرَة: البلدة. وتقول: «لقيته صَحْرَةَ بَحْرَةَ»، أي بارزًا ليس بينك وبينه شيء. والبَحَر هو: التحيُّر، وهو كذلك العَطَش الشديد. وأمّا «البحر» حين يُطلَق على الماء، فعلى المِلْح منه خاصَّة. ويقال: قد أبحر الماء إذا صار مِلْحًا. قال (نصيب بن رباح):
وقد عادَ ماءُ الأرضِ بَحْرًا فزادني
إلى مَرَضي أنْ أبحرَ المشربُ العذبُ
وإنما يُطلَق هذا اللفظ توسُّعًا على الأنهار الواسعة، الدائمة الجريان، مثل (دجلة) و(الفرات) و(النِّيْل).(6)
وعليه، فمن تأوَّل، لزمته معرفة اللغة، والوقوف عند حدودها، وإلَّا أفضى إلى محض التقوّل والهذيان. وعندئذٍ لا غرو أن يغدو الربعُ الخالي البحرَ الأحمر!
** ** **
(1) انظر: فرويد، سيجموند، (1986)، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة).
(2) انظر: (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل (بيروت: دار الساقي)، 211- 000.
(3) انظر: معجمات العربية، (سيف).
(4) انظر: خفايا التوراة، 240.
(5) انظر: ابن منظور، لسان العرب المحيط، (سوف)؛ (ساف).
(6) انظر مثلًا: الجوهري، الصحاح؛ الزبيدي، تاج العروس، (بحر).