د. محمد عبدالله العوين
تلك أجيال جادة مميزة تلقت العلم جثوًا على الركب بشغف ونهم وتنافس على التميز، وأولئك معلمون مخلصون أدوا أمانتهم وحفرت أسماؤهم في الذاكرة ولم يطوهم النسيان أبدًا؛ كان التلميذ وهو يلعب مع لداته في الشارع إذا رأى أستاذه مارًا انزوى في منعطف أو فر مسرعًا هاربًا؛ كيلا يراه؛ لأنه سيعاتبه غدًا كيف تلعب وتترك مذاكرتك؟ وعلى أن هذا الأسلوب لا يخلو من قسوة ومن تضييق على الطلاب؛ لعدم منحهم وقتًا مناسبًا للعب وللترويح عن النفس؛ إلا أنه من جانب آخر يوحي بالقدر الكبير من الاحترام للمعلم، وهو هنا غاية سرد هذا الملمح، جيل إذا رأى الأستاذ أو مدير المدرسة قبّل رأسه، وإذا أخطأ أحدهم وأدبه مدير المدرسة أو الأستاذ لم يجلجل والده في الإدارة صائحًا في وجه المدير أو المدرسة أو مهددًا بالشكوى إلى وزارة التعليم؛ بل كان آباء ذلك الزمان يقولون: «لكم الجلد ولنا العظم» ثقة في أن إيقاع العقوبة لن يكون إلا بسبب خطأ يستوجب ذلك، وثقة أيضًا في أن العقوبة لن تكون مؤذية للطالب مهما بلغت قسوتها.
جيل لم يتعرف على «الملخصات» التي لا تزيد اليوم أن أثقل الأستاذ على طلابه على عشر صفحات، ولم يتعرف على التحديد؛ أي أن يضع الأستاذ علامة «صح» على معلومة ثم يقفز إلى آخر الصفحة أو إلى الصفحة التالية أو ربما إلى عنوان جديد ليضع علامة مماثلة على المطلوب والباقي محذوف! تلك الأجيال لم تدخل مدرسة خاصة ولم يطرق إلى أسماع الآباء - حينذاك - شيء اسمه «مدارس خاصة» وأن تمييزًا واضحًا في المستوى المادي والاجتماعي بين من يلتحق بمدارس الحكومة ومن ينتظم في المدارس الخاصة من باب المباهاة أحيانًا كما هو شأن التعليم اليوم، فكلما كثر المبلغ المطلوب كقيمة لتعليم الطالب كانت المنزلة الاجتماعية للأسرة أكثر رقيًا، ومعنى هذا التقييم الباطل في عرف تعليم هذا الزمان أن مدارس الحكومة لا تساوي شيئًا، ولا تقدم التعليم المميز، ولا يلتحق بها إلا أبناء الطبقات الفقيرة أو غير الميسورة التي لا تستطيع الدفع إلى المدارس الخاصة على اختلاف أقساطها المطلوبة؛ ولكن الحقيقة الجميلة التي ترد على هذا التمييز الطبقي المتهافت وعلى الاتهام غير الدقيق ولا العادل للمدارس الحكومية أن وزارة المعارف في ذلك الزمان الجميل كانت الوحيدة المسؤولة عن افتتاح المدارس وإنشاء مبانيها على أحدث طراز في ذلك الوقت؛ فكانت المدارس الحكومية تبدو في القرى والمدن الصغيرة أحدث مبانٍ فيها، وقد انتقلتُ أنا من مدرسة في بيت طيني في السنة الأولى عام 1383هـ إلى مبنى مسلح فخم بنته وزارة المعارف في عهد الملك سعود -رحمه الله- في مدينة حوطة بني تميم، وهي المدرسة الأولى في تلك البلدة آنذاك، وكانت بالنسبة لنا حدثًا مبهرًا؛ أما اليوم - وعلى الرغم من كثرة ما تنشئه وزارة التعليم - إلا أن عددًا غير قليل من المدارس الخاصة يحشر فيها الطلاب حشرًا في فلل بنيت لسكن أسر، ومهما كانت كبيرة إلا أنها لا يمكن أن تكون مريحة لاستقبال أكثر من ثلاثمائة طالب!
كانت مكتبات المدارس عامرة زاخرة بكل جديد من مختلف المعارف والفنون، وتزودها وزارة المعارف بما يجد من أقطار الوطن العربي كافة، وكانت غرف النشاط الرياضي والفني مليئة بكل الأدوات اللازمة، وكانت وجبات الطلاب تمدهم بما يحتاجون إليه من طاقة وتوزع على جميع الطلاب في أنحاء المملكة كافة، ولعل من بلغ الأربعين يتذكر الآن اسم شركة « أبو الجدايل إخوان « ووجبتها الغذائية المميزة.
وكانت حفلة آخر الأسبوع برنامجًا ثابتًا كل يوم خميس تكتشف من خلاله المواهب، أما الحفل الكشفي والرياضي السنوي لتعليم المنطقة؛ فقد كان حدثًا سنويًا عظيمًا يحضره مسؤول كبير من الوزارة وتنتدب له إذاعة الرياض وفدًا ليسجله. وللحديث بقية..