جارالله الحميد
يشكّل صوت التلفزيون الخلفية الدائمة للمشهد اليومي، وهو صوت يتراوح بين أزيز الرصاص الأعمى والمنطلق بشكل ٍ أوتوماتيكي وبين أصوات الزعيق الذي يحسبه أصحابه غناءً وما هو بالغناء. بل هو أقرب لأصوات البهائم المنطلقة بلا معنى!. وتمرّ الأيام رتيبة ً بلا جديد. ولا يتغيّر بندول الساعة عن منتصف حقلها الفارغ المستدير الأبيض المكتظ بالفراغ. إن البحث عن المعنى في هذا الفراغ الموحش الذي يشبه فراغ الصحارى الموحش هو مثل البحث عن العبارة الضائعة ليكتمل
معنى الشعر بلا جدوى!. وفي الليل يكتسب المشهد أبعاده المأسوية حين يغطي الظل العريض المساحات الفارغة التي تركها ضوء النهار الشحيح. وتغدو النجوم نقاطا صغيرة حمراء مومضة. في فراغ السماء الذي يحمل غازات المصانع السامة وهيدروكلوريد الملح المتبخر من البحار والمستنقعات.
كل الأيام تبدو: بلا معنى! وبلا جديد. سوى دقات ساعات الحيطان الصماء التي تحصي الزمن الضائع من أنفاس المواطنين الذين يشتكون الفراغ والهجران والصبر الطويل سدى. وفي مشهد جانبي يظهر رؤساء الدول الكبرى الآتين لتسويق الأسلحة والمزيد من آلة الدمار والموت. وهم متأنقون ويحملون مناديلهم الكبيرة المعدّة لامتصاص كميات أكبر من الفايروسات والأوبئة. ووحده : الشعر يقف متكئا على حديد الطرقات يبكي. ويشحذ العابرين أن يلتفتوا إليه ليؤنسوا وحشته الفادحة والكبرى. والمقاهي بلا زبائن ولا أجهزة برونوغراف لتتيح لصوت الفراغ أن يستولي على ذاكرات الناس المنعزلين الشاعرين بقسوة الصمت والتكرار واللاجدوى!.
هكذا يمضي زمننا. مثقلا بالحيرة ومدججا بالأسئلة. ومرتهنا للصمت.
وبدون أن نشعر - كثيرا - سيظل زمننا هكذا. لا نرى إلا غبار أقدامه ولا نسمع سوى حفيف ركضه. إنه، حتى في الشعر، مرآتنا الأخيرة وماؤنا الجميل لم يعد ثمة متسع للغة الحلم ، وما عاد الغرباء يجدون غرفة شاغرة في فنادق المدن البعيدة والقريبة من الخلجان والقلوب. ولم تعد ثمة كؤوس تضج بغبار الرماد المثلج .
انظروا معي. ولتحدقوا فأنتم في مهمة صيد ٍ بورجوازية. انظروا للوحة كلها ولا تقسموها إلى مشاهد. انظروا إليها بعيون بانورامية. فلقد تعبنا من التقسيم. لم يعد ثمة ما نقوم بتقسيمه بعد أن تمّ تقسيم أوطاننا وتمّ توزيعها مثل قطع الكعك على الجيران القريبين والبعيدين. وتم تخصيص الجزء الأكبر منها للجيران ذوي النفوذ الأكثر . والقوة الأكثر. وتمّ توزيع عدد قليل من الحصص لقليلي الحيلة والحظ .
وصرنا نرى جيدا مشهد المغادرين أوطانهم إلى الأماكن الكثيرة والبعيدة دون مخططات للعودة حيث: لا عودة!. إلا بشرط تعجيزي وهو عودة الأوطان إلى أهلها والشموس إلى مداراتها. والنجوم لمنازلها. حاملين حقائبهم - أوطانهم الصغرى - على أكتافهم وظهورهم حتى احدودبوا. وصرنا نغني لهم أغاني العودة المستحيلة إلى البحار المستحيلة. صرنا كطيور تحاول أن تسكن إلى بعضها بعد طول رحيل وتطواف. وصارت عيوننا أكثر اتساعا من ذي قبل. ومساحات البياض فيها أكبر من ذي قبل. لكثرة ما نحدق في الفراغ واللامدى !. وصار منظرنا فكاهيا كممثلين تافهين خارجين من المسرح بعد أداء مسرحية سيئة بكل تفاصيلها ومفاصلها. والزمن كان الغائب الأكبر فيها ومنها. كانت الإشارة إليه وحدها : ممنوعة !. فنحن في المسرحية نستخدم كلمة الزمن على أنه زمن افتراضي يُفضّل المرور عليه مرور الكرام . أو مرور اللئام أيهما أسرع وأيسر.
لم تعد مجدية كل معلقات الرثاء ولا السيمفونيات العاطفية ولا المسرحيات الهزلية ولا أغاني الربيع ولا أصوات العصافير والبلابل. ولا حفيف الشجر بعد هواء ٍ رخيّ. ولا مشهد الماء وهو ينساب بين أقدام الصخور الصماء المخضوضرة. لم يعد كل شيء مبهجا بعد أن أصيب كل شيء بالصمم. وبعد أن عصفت الريح ببقية الأشجار. وصارت جذوع الأشجار عجائز واكتهلت لشدة المهمة . واحترقت الأغصان مثل سجائر في بدايات اشتعالها. لا تبحث عن شيء مثل بحثها عن مطفئة أو منفظة.
كل الأرقام صارت تشبه الصفر. ولم تعد تستجيب لعمليات جدول الضرب ولا القسمة ولا باقي عمليات الحساب ولا الجبر. وصار المطر ليس أكثر من مستنقعات صغيرة تصلح للضفادع وبقية الحيوانات البرمائية. لشدة ما هي قميئة في آنيتها. ولا ينافسها في قبحها القميء سوى قبح قاطنيها المؤقتين.
كان السؤال ولا يزال وربما سيظل يطعن صدر الزمن الرديء. مثل فارس مبتور الأطراف . ويلبس قناعا فضيا يخفي الجذام في وجهه. كان الزمان سؤالا طريا ينطوي على أمنيات ويحتوي على ضحكات مراهقات خليات البال. وبه موسيقى. وحواليه ضاحكون وعازفو آلات موسيقية وترية مصنوعة بحرفنة ومكر ودأب. وتسمع لليله غناء ً شجريا . وأقماره البهيجة تمتلك المفاتيح السرية للسعادة.
مضى الزمن سريعا... سريعا، أسرع مما كنا نظن!
مضى ودار على نفسه فاستدار. ولم يبقَ سوى خيوط ٍ صغيرة من الليل الذي اتجه إلى مرافئه الأخيرة كي يعود لمنازله البعيدة مانحا الزمن برهة يستضيف فيها نهارا آخر، ونحن نتعلق بأهداب كلّ ٍ منهما لوقت صغير ونعود أدراجنا نلهو بأنفسنا بعيدا عنهما!
هذا ليلنا، وهذا نهارنا !
تلك أزماننا !