د. جاسر الحربش
تتكرر كثيراً في الحوارات المحلية والعالمية مقولة إن الحكومات في الشرق الأوسط، ومن ضمن ذلك المملكة العربية السعودية تمتلك الرؤية والرغبة في التطوير ومتقدمة في ذلك على مجتمعاتها، لكنها تتعامل بحذر مع خطوات التطوير والتغيير مراعاة للأغلبية المحافظة في مجتمعاتها. هذه المقولة يكررها أيضاً المحاورون السعوديون عندما يمثِّلون بلدهم في اللقاءات البرلمانية والحقوقية، بما يجعلهم من حيث لا يريدون في صف المدافعين التقليديين عن التأجيل والتأخير، أي أنهم بحكم الواقع الذي يدافعون عنه يكونون ضد العقلية والرغبة التطويرية المتوفرة عند السلطات السياسية.
رغم الهدف الوطني النبيل في هذه المقولة الدفاعية، إلا أنها تحوي عدة تناقضات. الاستنتاج النهائي من تكرر استخدامها في الإعلام هو أن الحكومات عندما تتعامل مع متطلبات النهضة الشاملة لا بد أن تضع في حساباتها مؤشر الرضا أو الرفض في أوساط العوام، أي الدهماء بمعنى السواد الغالب في المجتمع. الإشكال يتركز في كون الغالبية الاجتماعية قد أودعت ثقتها في كل الأمور، الدنيوية والأخروية، عند العقول والمرجعيات التراثية التقليدية، التي لها (بحكم الارتباط المعيشي والوظيفي والتعليمي) موقفها المحدد والمسبق من التطوير وأدواته.
مع ذلك لا بد من الإشارة إلى التناقض المهم والمؤثر في مقولة مراعاة السلطات السياسية في الشرق الأوسط لميول الأغلبية السكانية، وذلك عندما تبادر الدول بإحداث نوع ما من التغيير أو التطوير ضد رغبة الدهماء التقليدية، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك البث التلفزيوني في بداياته ثم البث والاستقبال الفضائي واستخدامات وسائل التواصل الاجتماعي وتعليم البنات بما يشمل الآن الابتعاث إلى الخارج، وغير ذلك كثير.
إذاً لا بد من سؤال: عندما يكون هناك سباق مصيري (أممي وحضاري في هذا السياق) هل يجوز للحكومات مراعاة المتشبثين بالرداء الوطني لسحبه إلى الخلف بقصد التأجيل والتعطيل، أم أن المتوجب هو التخلص من الأيادي الساحبة إلى الخلف والجري بأقوى وأثبت خطوات ممكنة نحو الأمام ومع أول المتسابقين؟
يُوجد لمصطلح العوام أو الدهماء ما يوافقه في كل اللغات عند كل شعوب الأرض، لوصف الكثرة العددية التي يتوقع منها قبول وتنفيذ ما تخططه وتقرره القلة من أصحاب العلم والعقل المدركين لشروط القوة والضعف والاستقرار والاضطراب والاكتفاء والحاجة، في المجتمعات.
استقراء التاريخ البشري يُوضح تعاقب نوعين في الحضارات، النوع الأول هو ما تبتكره وتهندسه قلة طليعية من العقول المستوعبة لضرورة التطور المستمر بلا توقف، وتقنع به وأحياناً تفرضه على الغالبية بناءً على التوقع المنطقي لحصول الاقتناع الجماهيري لاحقاً بعد تحقق الفوائد مع مرور الوقت. النوع الثاني هو ما تكرسه، أي لا تبتدعه ولا تهندسه، العقول المتوجسة من التطوير، إما لأسباب انتفاعية طبقية أو عن قناعات بتفضيل القديم على الجديد وتحبيذ البقاء فيه.
عوام الناس (الدهماء) تلعب أدواراً مفصلية في تاريخ الشعوب الخاملة فقط، وذلك بسبب تعاطفها المفصل على قدر ما تفهمه وتستوعبه، أي النمط التقليدي المتعوّد عليه في العيش والتعايش والعادات والتقاليد، وهذا ما يستغله المستفيد من التأجيل أو التعطيل لمقاومة التطوير والتغيير. من هنا تتبلور وتنمو ظاهرة ابتزاز المجتمعات بادعاء المحافظة على ثوابت الهوية، وهذا هو السائد في مجتمعات التخلف العلمي والتقني والفكري والحقوقي، لأن هذه الأمور تتطلب تطويراً وتغييراً حسب متطلبات الزمن والتحديات. عندما تضعف القناعة الشعبية بتبريرات العقلية التقليدية المحبذة للارتكاس في نفس الزمان والمكان، نلاحظ أن العقليات التقليدية تقفز إلى خارج ثوابت وحدود الأوطان، لتتعاون مع مثيلاتها وشبيهاتها خارج الحدود، بما يحتويه ذلك من احتمالات الاستعداء على الوطن. هذا التمازج سبق أن حدث بين الفكر النازي الألماني والفاشي الإيطالي والإسباني والياباني وأدى إلى خراب عالمي وحروب طاحنة. الآن يتكرر هذا التضامن بين المنظمات العنصرية المحافظة في روسيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأمريكا، وكل ما يجمعها هو التشابه الفكري المحافظ الذي يرفض التجديد والتعايش مع المختلف.
نفس التمازج ينطبق على التضامن بين القاعدة مع داعش وبوكو حرام وشباب الصومال، وكذلك بين الفكر الإيراني العنصري مع حزب الله والحشد العراقي الشعبي والحوثيين في اليمن، وهذا ما نسميه حالياً الإرهاب العابر للحدود.
الزبدة: مسيرة التاريخ نحو الأمام تشترط نفض الأيادي المتشبثة بالرداء الوطني بهدف سحبه إلى الخلف والانطلاق بأقوى وأثبت خطوات نحو الأمام لوضع الأمة في الصف الأول مع المتسابقين وتحقيق الاعتماد الكامل على النفس.