د. جاسر الحربش
حالياً يوجد الفارق في سن الإرهابي فقط. في بدايات التأسيس للدولة السعودية الثالثة وجدت محاولات إرهابية لإفشال مشروع الدولة، بنفس التبريرات والمفاهيم والفتاوى المجتزأة التي يستعملها الإرهاب الحالي.
الإرهاب الذي عاصر مراحل التأسيس من عشرينيات إلى خمسينيات القرن الهجري الماضي حاول إفشال المشروع قبل اكتماله، وحفيده الإرهاب الحالي يحاول تقويض المشروع الذي قام واستوى واشتد عوده.
ما نعيشه حالياً من إرهاب الأطفال والمراهقين الملعوب بعواطفهم وعقولهم تعود جذوره إلى نفس المفاهيم القديمة التي تلاعب بها التكفيريون المتشددون بعقول الأتباع من الكبار السذج والأميين. الشعارات والتبريرات القديمة والجديدة متطابقة، الجهاد ضد الكفار والرافضة وموالاة الأجانب المشركين والمحافظة على الهوية.
أقرأ حاليا ً في كتاب: الدعوة الوهابية والمملكة العربية السعودية، للمؤرخ الاجتماعي الأمريكي ديفيد كامنز / ترجمة الدكتور عبدالله إبراهيم العسكر ونشر دار جداول.
لكيلا يتسرع أحد في الحكم، الكتاب محايد ويحلل فقط أسباب الوقائع وكفى. أذهلني الشبه لدرجة التطابق بين عقليات المتمردين في بداية الدولة السعودية الثالثة مع عقليات المنظمات الإرهابية في عصرنا الحاضر، وخصوصا ً مفاهيم الجماعة التي سمت نفسها «إخوان من طاع الله». الإيحاء للأتباع في التسمية واضح، بمعنى من ليس معها يعتبر خارجاً عن طاعة الله، وهو ما نسمعه اليوم من الإعلام الإرهابي.
المثير للإعجاب المستحق، بعيدا ً عن التملق والنفاق، هو قدرة الملك عبدالعزيز رحمه الله على التعامل مع تلك العقليات الرافضة لكل تغيير وتطوير، وفي تلك الظروف المرتبكة والمضطربة والمبتلاة بالفقر وشح والموارد واهتزاز الأمن خارج أسوار كل مدينة وقرية.
كان الملك عبدالعزيز يستهدف إقامة دولة عصرية تتعامل بندية مع العالم، بينما الغلاة المتشددون، لأطماع شخصية ووجاهية غالباً كانوا يريدون الحجر على هذه البلاد وإبقاءها فيما كانت فيه وعليه من جهل وظلام وضياع، وذلك برفع علم الجهاد والولاء والبراء في وجه محاولة الانتقال من الظلام إلى النور.
آنذاك، وبالرغم من وقوف الأغلبية الفقهية المؤهلة بما فيه الكفاية مع الشرعية السياسية، كانت هناك تيارات تضغط وتهدد، مطالبة بمقاطعة كل تعامل مع أي عنصر بشري خارج هذه الصحراء واعتبار جميع من يقع خارجها كفاراً ومشركين، بما في ذلك أهل مصر والشام والعراق وتركيا، بالإضافة إلى أصحاب المذاهب الإسلامية المغايرة داخل حدود الدولة السعودية الناشئة.
فرض الجزية على المخالف في المذهب وتحريم السلام والمجالسة والمؤاكلة وتحريم السفر إلى بلاد الأجانب لطلب العلم ورفض وسائل النقل والاتصالات الحديثة المستوردة، بما يشمل حتى التلفون والبرقية الضرورية لأنظمة الدولة ومؤسساتها.
القدرة العجيبة والعزيمة النادرة للملك المؤسس ومواهبه في الصبر والتقديم والتأجيل، تقديم ماهو ضروري باتخاذ القرار الصارم وتأجيل ما يمكن تأجيله بالانتظار، تلك كانت هي الخصوصيات النادرة في شخصيته التي استثمرها في بناء ما نعيش فيه ونحتمي به اليوم.
قراءة ما يلقن للطالب والتلميذ في مناهجنا الدراسية عن بدايات التأسيس لا تكفي في نظري للتعريف بصعوبة تلك البدايات، لأنه قدم بطريقة سردية غير احترافية مملة، للحفظ فقط وليس للفهم والتفكير.
قراءة ما يكتبه أستاذ أكاديمي محايد من خارج الدائرة السعودية يكون أقرب كثيراً إلى التجرد العلمي والإخلاص للحقيقة، البريئة من نفاق التقرب والاسترزاق.
خرجت من قراءتي للكتاب المذكور بفوائد ومعلومات كثيرة، أكتفي بإيراد ثلاث منها للأهمية في الوقت الحاضر:
الأولى هي أن بذور الإرهاب في التاريخ الإسلامي من نوعية واحدة، منذ الخروج على الخليفة عثمان رضي الله عنه، وعبر الخوارج والقرامطة وحتى اليوم.
الثانية هي أن القضاء المبرم باتخاذ الحكم الصارم هي الطريقة الوحيدة الناجعة للقضاء على الإرهاب.
محاولة اللقاء في منتصف الطريق باللين والمناصحة وإغداق المكافآت يزيد من شهية الإرهاب في التوسع.
الفائدة الثالثة والأخيرة أسميها ظاهرة الحقبة الآمنة من الإرهاب.
بعد أن قضى الملك عبدالعزيز رحمه الله على رؤوس الإرهاب القيادية والتحريضية حصلت المملكة على فترة زمنية خالية من الإرهاب، أسميها الحقبة الآمنة، امتدت تقريباً من الأربعينيات الهجرية حتى بداية قرع الطبول الجهادية في أفغانستان، وكان استنفاراً جهاديا ً في حرب تدور خفاياها بين الغرب والاتحاد السوفييتي وكلاهما يعتبر من الكفار.
أثناء فترة الاسترخاء الخالية من الإرهاب تلك ساد السلام الاجتماعي والتعايش والتفاؤل ولم يعد أحد يتكلم في الاختلافات المذهبية ولا يزايد في درجات الالتزام ومظاهره ولا يسأل جار عن مذهب جاره، وكان الكل يتطلع نحو العلم والمستقبل.
مع حرب أفغانستان وقرع الطبول بدأ استنبات بذور الإرهاب المطمورة من جديد، باستمطار الشعارات والمزايدات المذهبية القديمة.
لا يمكن القضاء على الإرهاب المتجدد إلا بتطبيق نفس المعايير والوسائل التي استخدمت ضد الخوارج الأول أيام الفتنة الكبرى، ثم ضدهم في بداية الدولة السعودية الثالثة وذلك ما سوف يتحقق بعون الله.