د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي
إن فقد الإنسان لوالدته مؤلم له أشدّ الألم، لأثرها في حياته، ومكانتها لديه، وعلاقته بها في مختلف أحواله، وعطفها وحنوها عليه.
ويصعب عليه أن يعبّر عن مشاعره نحوها مهما كان سنه.
في ذاكرته طفولته معها، وفي وجدانه وتصرفاته توجيهاتها ونصحها له.
إن ألم فراقها عليه شديد، وإنّا لفراق والدتنا الغالية لمحزونون، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} ونقول: «اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها».
«اللهم اغفر لوالدتنا، وارفع درجتها في المهديين، واخلفها في عقبها في الغابرين، واغفر لنا ولها يا رب العالمين، وافسح لها في قبرها، ونوّر لها فيه».
إن مما خفّف ألمنا مشاعر المعزّين ودعاؤهم لها بالمغفرة والرحمة، سواء أكان حضورياً أم مهاتفة، أم مكاتبة.
وللحديث عن المشاعر تجاه الوالدة، وعن مشاعر المواسين لأولادها وأحفادها من الأمراء والعلماء والمثقفين والمسؤولين والأقارب والزملاء والأصدقاء، من داخل المملكة وخارجها، له وقت آخر.
إن أعظم ما خفّف مصاب الأسرة في الوالدة العزيزة -لأبنائها وبناتها وأحفادها وحفيداتها وأفراد الأسرة كلهم- مواساة والد الجميع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود أيَّده الله بنصره، وذلك عبر الهاتف مباشرةً، ثم برقية عزاء مؤثّرة.
هاتفني قبل الصلاة عليها ودفنها بكلمات أعتزّ بها وأفراد أسرتي، لا تغيب عن ذهني، أسأل الله له طول العمر على طاعة الله وأن يجعله موفقاً أينما كان.
وبعد ذلك برقية تعزية لي وللأسرة، خفّفت المصاب.
إن نعمة الله علينا في هذه المملكة المباركة عظيمة، نحمده ونشكره عليها، نعمة عظيمة لا نظير لها في عالم اليوم.
القادة ينظرون إلى شعبهم نظرةً إنسانية، منطلقة من توجيهات ديننا الحنيف، ومن تواضع سيد البشر، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في تعامله مع صحبه الكرام، كباراً وصغاراً.
إن ملوك المملكة وأمراءها لا يتعاملون مع شعبها تعاملاً فوقياً، وبخاصة عند المصائب، ولكنهم يتعاملون بعطف ورحمة وإنسانية.
هل نجد في الدول والمجتمعات الأخرى ملكاً أو رئيساً يتصل مباشرةً بأهالي المتوفى، وهم من عامة الشعب للتعزية في مصابهم؟.
إن الملك سلمان -حفظه الله- في تعامله إنسان قبل أن يكون أميراً وملكاً، يعرف ذلك حق المعرفة أبناء المملكة وغيرهم ممن تعامل معه.
مواقفه مشهورة منذ توليه إمارة الرياض قبل نصف قرن، أعرف ذلك كما يعرفه غيره.
لقد عشت في مدينة الرياض، العاصمة المباركة، وقت إمارة الملك سلمان لها، وكنت قريباً منه ومعه في أثناء الدراسة والعمل في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، في مناسبات تخرج الطلاب، وافتتاح المؤتمرات، واستقبال الوفود، وسعدت بالمشاركة في لجان عديدة يرأسها، واستفدت كثيراً من قدراته وتجاربه وإنسانيته.
لقد نهض بعاصمتنا المباركة، حتى أصبحت من أكبر عواصم العالم، بفضل الله وتوفيقه، وبصماته واضحة في كل مرفق من مرافقها.
يشارك المصابين في الصلاة على موتاهم، وييسّر للمرضى سبل العلاج، ويزورهم في المنازل والمستشفيات، ويقوم بأعمال يبتغي بها وجه الله لا يعلمها إلا هو سبحانه.
لا أنسى زيارة الملك سلمان لوالدي رحمه الله حينما كان في المستشفى، وكلماته الرقيقة، وفي الذاكرة زيارته لي في أحد المستشفيات وأنا لم أصح من غيبوبة البنج، ليطمئن عليَّ، وقد كنت وقتها حريصاً ألا يعلم أحد بذلك.
وفي الذاكرة موقف إنساني نادر حينما كلمته في غير وقت العمل عن الحادث الذي أصاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان رحمه الله وتوجيهه للمستشفى باستقباله، والمفاجأة وصوله - حفظه الله - للاطمئنان عليه فور دخوله الطوارئ.
وأجزم أن هذه المواقف وهذه الإنسانية لقائدنا المفدّى في ذاكرة أبناء شعبه، سواء في المملكة أو في خارجها.
والذي يهمني هنا التأكيد على هذه الخصوصية في المملكة وتعامل قادتها مع شعبها.
إنها خصوصية نعتزّ بها، وأساسها ومنطلقها الإسلام وقيمه، والعرب وأصالتهم، فبلادنا - حفظها الله من كل سوء - البلاد الأصلية للعرب والمسلمين كافة.
ولم يشهد تاريخها بعد العصور المفضلة للمسلمين، حكماً رشيداً وقادة مندمجين مع شعوبهم، كما شهدته بعد قيام المملكة العربية السعودية، أدام الله عزَّها وأمنها ورخاءها.
إن أسرة آل سعود، منذ تاريخها العريق، وتجديداً له من موحّد هذه البلاد الإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أسرة عريقة أصيلة، أنعم الله بحكمها على المملكة العربية السعودية، وامتدّ خيرها وعطاؤها إلى العرب والمسلمين، بل العالم أجمع.
وإن إمامنا وقائدنا الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، المتابع لمسيرة هذه الأسرة المباركة، ولتاريخ العرب والمسلمين، وللقضايا والمشكلات المعاصرة يجدّد تاريخ هذه الأسرة المباركة، ويضرب أروع الأمثلة في تلاحم الشعب بقيادته، وفي حرصه على التواصل المثمر مع شعبه الوفي، تواصلاً إنسانياً، يعجز الإنسان عن التعبير عنه.
إن تصرفات الملك سلمان ومواقفه، انطلقت ونمت من الأخلاق السامية التي تلقاها من أبيه وورثها من سيرته الطيبة، تنساب على السجية السمحة لا تكلف فيها.
وأجزم أن روح الإنسانية والوفاء والعطف منه -حفظه الله- تجاه أبنائه، سواء أكانوا من ذوي الشأن والمكانة، أم من عامة الناس وبسطائهم، يندر في عصرنا الحاضر أن يوجد في قيادات الدول الإسلامية من يتحلى بها:
أولئك قومي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
والحديث عن هذا الجانب في سيرة الملك سلمان، من الصعب الإحاطة بشواهده من الوقائع والحالات.
وغاية ما يقال في ذلك أنه مدرسة في الإنسانية والوفاء في اهتمامه بالمرضى ومساعدته لهم وتهيئة الفرص لعلاجهم، وعيادته للكثير منهم في المستشفيات، بل وفي منازلهم أحياناً، ويندر أن تُلفي شخصية كبيرة مثله في مكانتها ومسؤولياتها، تفعل مثل ما يفعل:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
لقد أكرم الله المملكة العربية السعودية وأهلها بتولية أمرها الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي متّعه الله بصفات كريمة ومزايا كثيرة، حيث حفلت سيرته بجوانب لافتة في مختلف المجالات الإنسانية والإدارية والثقافية. وتكاملت فيه خصائص القيادة والريادة، حيث يُعدّ من القادة القلائل الذين تمرّسوا في مختلف فنون القيادة التي تستلهم من موروث هذه الأمة وتراثها، مع مزايا وصفات خاصة كشفت عن قدراته الفذّة في إدارة شؤون البلاد.
إن الصفات التي اتصف بها حكام المملكة، وتعاملهم مع شعبهم هي السبب الأساس في نجاح المملكة وتقدمها وأمنها واستقرارها.
لقد كانت المملكة العربية السعودية تجربة فريدة في العالم الإسلامي المعاصر في أمنها وأمانها ووحدة كلمة أبنائها والتفافهم حول قادتهم.
لقد انطلقت المملكة انطلاقاً سديداً موفقاً، منحها قوة ذاتية من أول يوم.
فهي دولة أسست على المنهاج الإسلامي، واستمدّت من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نظامها الأساسي في الحكم وإدارة شؤون المجتمع ومؤسساته، وذلك ما كانت تأمله الشعوب الإسلامية من دولها، لكنها ابتعدت مع الأسف عن العمل بالإسلام عملاً يتوافق مع رسالته وأهدافه في تحقيق العبودية لله في الناس، والخضوع لأحكامه والسير على المنهاج الذي سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والابتعاد عن سبيل الله ومنهاجه القويم، الذي أسهم في الجهل بالإسلام وأدّى إلى الوقوع تحت هيمنة ثقافية أجنبية، كان تحدّياً صعباً أمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- في مسيرته نحو توحيد شعب المملكة تحت راية واحدة راية التوحيد.
لكن تمسّكه الوثيق بدينه وصلته العميقة بتراث أمته وتاريخها، وبخاصة تاريخ آبائه وأجداده المرتبط ارتباطاً تعاونياً بدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - الإصلاحية التي سطع نجمها في نجد في أواسط القرن الثاني عشر الهجري، جعل منه رجلاً بطلاً فذّاً شديد الشكيمة ماضي العزيمة لا يلويه عن مراده شيء.
لقد انطلقت المسيرة المباركة للمملكة العربية السعودية، بقيادة الملك عبدالعزيز رحمه الله ومؤازرة رجاله الكرام البواسل، على تلك الأسس التي أثبتت الأيام أهميتها ونجاحها في إرساء دعائم المملكة، ونموها نمواً رائداً مطرداً في مختلف المجالات، وصيّرتها بذلك نموذجاً للدولة المعاصرة التي تلائم الشعوب المسلمة، وإن مراعاة تلك الأسس هي التي تحقق تآلفهم وائتلافهم على ولاة أمورهم، وإخلاصهم في حبهم لأوطانهم، وحرصهم على خدمتها وحراستها من كل ما تراد به من سوء.
إن النجاح الذي أحرزته المملكة مرتبط ارتباطاً سببياً بسير الرجال الذين تحقق على أيديهم مما هو جلي اليوم في الملك سلمان - حفظه الله - وما تميزت به شخصيته من الشّيم النبيلة والأخلاق الجميلة التي أبرزت الجانب الإنساني بوضوح في مواقفه وتعامله مع شعبه، مما جعل له مكانة وحباً عميقين في قلوب أبناء المملكة، وولاء له واعتزازاً به، وتلاحماً لشعبه تحت قيادته في خدمة الدين والوطن.
وذلك مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم».
إضافة إلى ما حباه الله به من الخصائص القيادية الفذّة التي تظهر في القرارات الحكيمة، والتصرفات الرزينة، والمواقف الشجاعة، وإبداء الاقتدار في الاضطلاع بالمسؤوليات الكبيرة والأعباء الصعبة التي تتناسب مع مكانة المملكة ووزنها العربي والإسلامي والعالمي، وموقعها الاستراتيجي في العالم الإسلامي.
إن الحديث في هذا الجانب يطول، وقد يسّر الله لي إصدار كتابين عن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وصفاته التي جعلته أمة في رجل، وأثرها في أبنائه الكرام، ومنهجه العادل الذي وحّد عليه المملكة، وسار عليه في حكمها.
والذي دعا إلى هذا الحديث الموقف الإنساني الفذّ لوالد الجميع الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود في تعزيتي وأسرتي في والدتنا الغالية.
كان المعزّون من الأمراء والعلماء والوزراء والمثقفين وأساتذة الجامعات، من داخل المملكة وخارجها أعداداً وفيرة.
أشكر لهم وأسرتي مشاعرهم وأقدرها لهم.
ومن الأمراء الذين هاتفوني وواسوني في المصاب أصحاب السمو الملكي الأمير بندر بن عبد العزيز آل سعود، والأمير أحمد بن عبد العزيز آل سعود، والأمير منصور بن متعب بن عبد العزيز آل سعود، وأصحاب السمو الأمراء سعود بن سلمان بن محمد، وبندر بن سلمان بن محمد، ومنصور بن خالد بن عبد الله آل سعود، سفير المملكة في إسبانيا.
ومن الأمراء الذين تفضلوا وشاركوني وأسرتي في التعزية والمواساة في منزلي أصحاب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، والأمير خالد بن بندر بن عبد العزيز، والأمير فيصل بن أحمد بن عبد العزيز.
وأصحاب السمو الأمير بندر بن محمد بن عبد الرحمن، والأمير محمد بن سلمان بن محمد، والأمير عبد الرحمن بن عبد الله بن فيصل، محافظ محافظة المجمعة.
وكثير من العلماء والوزراء والوجهاء، في مقدمتهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء، ومعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.
أسأل الله أن يثيب الجميع، ويعظم لهم الأجر.
إن مواساتنا ممن نعرف ومن لا نعرف من داخل المملكة وخارجها، سمة لمجتمع المملكة العربية السعودية، في تضامنه وتعاطفه، ووحدة كلمته تحت قيادته الكريمة، بعيداً عن التفرق والتحزب وتعدد الانتماءات، التي بليت بها كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، فأثّرت على وحدة كلمتها واستقرارها.
ومن أوجب الواجبات علينا في هذه المملكة شكر نعمة الله علينا بذلك، والتمسّك بالمنهج الذي قامت عليه مملكتنا، وسيرنا مع قادتنا عليه، وتعميق ولائنا لربنا ثم لوطننا وولاة أمرنا.
نسأل الله المزيد من فضله، وأن يبعدنا ومملكتنا الغالية عن الفتن والنزاع، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ويجمع كلمتنا على المنهاج الحق، وأن يحفظ لنا قائدنا الملك سلمان بن عبد العزيز، وأن ينصر به دينه، ويعلي كلمته، ويوفقه وأعوانه إلى كل خير، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد وسلم.