د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
في البدء أود أن أبارك للقارئ الكريم حلول شهر رمضان الكريم متمنياً أن يعيده الله على الجميع، وعلى الأمة جمعاء وهم بخير وسلام، وأن يتقبل الله صيام المسلمين وقيامهم. فشهر رمضان شهر عبادة وخشوع ومن المحزن جدا أن يتقاتل فيه أي من المسلمين فيما بينهم لأي سبب كان.
وعموماً فالاقتتال في رمضان أو غيره أمر مريع جداً فالحروب تبدأ بسيطة ثم تكشر عن أنياب دموية في غاية البشاعة، وتنشر الألم والفقر والدمار لأجيال متعاقبة. وإشعال الحروب عادة أسهل بكثير من إيقافها. وقد ورد ذكر القتال في معظم الكتب المقدسة للديانات بما فيها القرآن الكريم. مما يؤكد أن الحروب جزء من طبيعة البشر، وهي قد تكون مشروعة أو غير مشروعة حسب منظور الدين وفلسفة الحقوق. ولكن جميع الديانات حرمت، أو على الأقل بغضّت العدوان الذي يمكن تعريفه على أنه الحرب بلا سبب جوهري أو الحرب من أجل الحرب والأطماع فقط. والإسلام أمر بإصلاح ذات البين بين المتحاربين، وأمر المسلم أن يجنح للسلم إذا ما الطرف الأخر جنح له. والجنح هنا إبداء الرغبة في وقف القتال والصلح.
وقد حار فلاسفة ما بعد التنوير الذي أعقب حروب أوربا المذهبية في طبيعة الإنسان، وكان منهم مثل توماس هوبز يرى الإنسان حيوان متوحش غريزي بطبيعة وأنه يجب ضبطه بسلطة قوية كالكائنات المتوحشة الأخرى. وكان هوبز يرى وجوب أن تتنازل الشعوب عن جميع حقوقها لشخص يٌمنح السلطة كاملة لقمع توحشها، وتتنازل له الشعوب عن كامل حقوقها مقابل إقامة السلم فيها. وأطلق هوبز على اسم هذا «القوي» المستبد اسم «لوفييتان»، وهو اسم مستعار من صورة وحش أسطوري ضخم بعدة أرجل يسيطر على كل ما حوله. وكانت العرب تقول خير من استأمرت «القوي الأمين».
ولكن ما لبث أن اختلف مع هوبز الكثير من الفلاسفة ومن أهمهم ديفيد هيوم الذي جادل في أنه يجب أن تحتفظ الشعوب بحقوق وحريات أساسية لا تتنازل عنها لمن يحكمها ومنها حق الحياة، والملكية، والحرية الفردية. وأن السلطة تمنح للحاكم وفق عقد يضمن في أدنى أحكامه هذه الحقوق التي لا يمكن التنازل عنها. ومن هنا ظهرت نظرية العقد الاجتماعي التي مهدت لظهور الدساتير ونظم الحكم الأساسية التي تطورت فيما بعد. واليوم تطورت نظريات الحقوق والواجبات خصوصا بعد ظهور مواثيق حقوق الإنسان.
ويحتار كثير من المفكرين في حل لغز الحروب فالإنسان تقدم في العلم والثقافة والمعيشة ولكنه لم يتقدم بالقدر ذاته في إنسانيته ومازال يمارس العنف والتسلط كالإنسان البدائي. والبعض يرى أن وسائل القتل التي تقدمت كالبنادق والطائرات والمدافع لا تجعل الإنسان في مواجهة مباشرة مع من يقتل وهو لا يرى أثر فعله في القتل إلا فيما بعد. ولكننا اليوم نشهد حروبًا وقتلًا لا يقل بشاعة عن قتال الشعوب البدائية. ومعظمه للأسف في منطقتنا.
وقد اعترض كثير من المفكرين على آراء هوبز وهيوم في أن الإنسان متوحش بطبعه وقالوا إن الإنسان يولد مسالما محبا بطبعه ولكن الثقافة التي يولد فيها هي التي تزرع فيه العنف وكافة التحيزات التي تولد الكراهية لديه وتولد الحروب. ودللوا على ذلك من الجغرافيا والتاريخ. فهناك شعوب مسالمة في أماكن كثيرة من العالم وأخرى عدوانية. وقالوا إن الكراهية والرغبة في الحروب تتعاظم لدى الشعوب العنصرية التي تنتقص من قيمة وحياة الآخر. فنظرة الاستعلاء على الآخرين اتسعت مع نشوء الإمبراطوريات، وبعد ظهور الاستعمار الذي انتقص من قيمة الشعوب المستعمرة. وبقيت نظرة الاستعلاء مستمرة حتى بعد استقلال الشعوب.
اليوم وبعد استقلال الشعوب أخذت الدول والأقليات تتقاتل حول أمور ليست في كثير من الأحيان جوهرية لكن السياسات والإيديولوجيات تضخم الخلافات البسيطة بين الشعوب وتخلق منها أمورا جوهرية في وعيهم وتصورهم وتجعلهم يرون فيها أمورا مهددة لوجودهم وتستحق القتال من أجلها. وقد فطن لهذا الأمر ليو شتراوس فيلسوف المحافظين الجدد الذي كان يرى أن قلة من الأفراد فقط تستطيع رؤية الأمور كما هي وأن الغالبية الأخرى هم من الغوغاء الذين يصدقون كل ما يقال لهم، ويروج عليهم كدعاية. وقد دافع عن حق القيادات في قيادة الشعوب واستغلال جهلها لما فيه خير لها، فهي لا تعرف تقدر مصلحتها الحقيقية، فيحق للقيادات أن تستغل العواطف القومية والدينية لتوجيه الشعوب ولو تطلب ذلك توجيههم لخوض الحروب. وكان معظم المحافظين الجدد الأمريكيين الذين نظّروا للقرن الأمريكي وعودة الإمبراطورية الرومانية بلباس أمريكي هم من هذا الاتجاه.
ودفع لكتابة هذا المقال منظر رؤية أعداد من الشعوب العربية والمسلمة خارج بلادها تتعايش بكل محبة وسلام بشكل لا تكاد تصدق معه أنها هي من ذات الشعوب التي تتقاتل في بلادها. عربا: شيعة وسنة، وإيرانيون وكرد وأفارقة وأفغان وليبيون وجزائريون وغيرهم من الشعوب المسلمة يتبادلون التحايا ويتناولون الطعام في المطاعم ذاتها ولا احد يسأل عن دين الأخر أو هويته. بينما أقرانهم في الوطن الواحد يتقاتلون بشكل أصبح مضرب المثل في العنف والتوحش حول أمور تافهة ضخمت لهم. فهل أفسدت السياسة تسامح الشعوب العربية والإسلامية؟ وهل سممت عقولهم؟
والأمر لا يتعلق بالعرب والمسلمين فقط، فالكراهية التي تغذيها الانتهازية السياسية والتي يجد لها البعض تبريرا وللأسف لا تعرف العرق ولا الدين ولا الهوية. فمن فجر في بيت عبادة في العوامية كان يريد حرباً أهلية بين الطوائف في بلادنا ربما لأنه يعتقد أنها ستعزل طائفة معينة. والمعتوه الذي قتل تسعة من السود في أمريكا كان يريد إشعال حربا أهلية بين البيض والسود في أمريكا تفضي إلى فصل عنصري بين السود والبيض. عقليتان من ثقافتين مختلفتين أفسدتها الدعاية السياسية العنصرية والتأجيج الطائفي.
ولذا إذا أرادت شعوب المنطقة إيقاف حمامات الدم في المنطقة فلا مفر من إيقاف التلاعب السياسي بالفوارق بين الشعوب، دينية كانت أو عرقية أو مذهبية. وهنا يجب تبني خطابات وفكر يعيد الأمور الطائفية والمذهبية البسيطة إلى نصابها الحقيقي وإعطاء الفوارق الثقافية حجمها الحقيقي بلا تضخيم أو تشويه. فالجميع يخسر من الحرب اليوم وليس بها منتصر. ويجب أيضا ألا نعول على ما يسمى بالمنظمات الدولية لحل مشاكل المنطقة فهي منظمات موجهة ولم تسهم في حل أي قضية بشكل كامل منذ أن تم تأسيسها حتى اليوم. بل إنها تستفيد من عناد وجهل الدول المتصارعة لاستدامة الصراعات، أو تقديم حلول شكلية يستفيد منها بالشكل الأكبر من يسيرون هذه المنظمات. فهي من تبيع السلاح، وهي من يعيد البناء بأموال الضعفاء، وهي من يعزز نفوذه بمنح القروض أو مقايضة المواقف.
ويخطئ كثيرا من يعتقد أن حضن الآخر أكثر دفئاً من حضن وطنه. وتخطئ حسابات من يعتقد أن في الحروب منتصر. فالطريق الوحيد للأمن والاستقرار الداخلي والخارجي هو النضج السياسي الذي يقدم كل عوامل استدامة الاستقرار الذاتي ليس بالقوة بل بالحكمة. وليس علينا إلا أن نتعظ من التاريخ ففيه الكثير من العبر، التاريخ الإنساني الحقيقي وليس التاريخ التي تكتبه الدول لنفسها. وكما قال ليو شتراوس يمكن حشد الشعوب وتأليبها بسهولة لأن غالبيتها من الدهماء التي تصدق ولا تفكر. ولكن ما لم يقله ليو شتراوس هو أن تجييش الشعوب أسهل بكثير من إعادتها مرة أخرى لطبيعتها المسالمة. حتى أمريكا التي سحقت العراق ودمرته بالكامل لم تكن بمنأى عن آثار الحرب فأمريكا المنتصرة بعد الحرب لم تعد أمريكا الديمقراطية الحرة قبل الحرب. وفي الختام أدعوا الله أن يعود علينا رمضان القادم ونحن بحال أفضل مما نحن فيه، يعود وقد سادت الحكمة ولغة العقل وخف التأجيج وتوقفت الحروب.