محمد جبر الحربي
يَا وَجْهَ أُخْتِيَ يَمْضِيْ، وَهْيَ عَائِدَةُ
لِلطِّفْلِ.. فِيْ كَفِّهَا النَّعْنَاعُ وَالْحَلْوَى
قلتُ لك في رسالتي السابقة:
الناسُ والقتلُ يا عائدة!
كنتُ بخيرٍ حتى قتلني الكلام، والكلام يقتل.. والكلمة تزرع الأرض بالحب والجمال السلام، والكلمة تُشعل النعرات والثارات وتورد البشر جحيم الدنيا والآخرة. وأنا الشاعر يا أختي أعرف الكلام وأعرف مقام الكلام، وأخاف، وأحذر من الكلام.
أيتها الحبيبة.. وعن القتل والكلامِ كنتُ كتبتُ فقلتُ: خيرُ الكلام يا أمّة البيان، وقد بدأتُ بالسلامِ فما بدايتهُ سلامٌ آخرهُ سلام، فالسلام على الأمّة، وعقلاء الأمّة، وأخيار الأمّة، وخاصّة الأمة، وعامّة الأمّة:
يقولُ خيرُها، خيرُ البريّةِ، النبيّ العربيّ الأمين صلوات الله وسلامه عليه:
(منْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليقل خيراً أوْ ليصمت).
ونسألُ نحن الذين سُقينا هذا البيانُ مع حليبنا منذ الطفولةِ الأولى:
أليسَ مِن المحيّرِ المؤلمِ أنّ كثيراً ممّا نطالعهُ اليومَ بلغةٍ عربيةٍ مبينةٍ، عبْر منابرَ، وجهاتٍ، وواجهاتٍ، وتياراتٍ، أنّى حلَلنا، وأنّى ارتحلنا في هذا العالم، يتقاطرُ منه الكرهُ والحقدُ والشّرُّ، ويتلبّسهُ الجهلُ والتعميمُ والتضخيمُ، فيودي إلى التهلكةِ حتى تتفجّر شلالات الدّم؟
فباللهِ بالله بالله أينَ ذهبَ إيمانُ هؤلاء الكتبة والمتحدثين؟!
وأين ذهبت الحكمةُ يا ربّ، وأين ذهبَ العقلْ؟
ما هذا الجنونُ الذي لا مثيلَ له من قبل، ولا يُعقَلُ أنْ يكونَ له مثيلٌ مِن بعد!
ماذا يحصلُ للأمّةِ، وعقلاءِ الأمةِ، وعلماءِ الأمةِ، وأدباءِ الأمةِ، وشعراءِ الأمة؟!
ما الذي يحصل لنا يا أمّة؟!
أوَ تمكنّتْ منا الفتنةُ حتى أحببنا الفتنةَ، ونيرانَ الفتنة؟!
هل تمكّن منّا الجهلُ والقتلُ حتّى استطبنا الجهلَ، وأحببنا القتل؟!
ويلكم، يا ويلكم منْ أيّامٍ سود.. وأسوأَ وأسودَ إنْ لمْ تتداركوا أنفسكم.
أوَ لمْ يعدْ للناسِ حرماتٍ حتى صرنا نتسقّطُ أخطاءَ الناسِ، ونفرحُ إنْ فُضِحَ الناسُ.. ونستطيبُ أذى الناسِ للناسِ، كبيرِهم وصغيرهم، ولاتِهم وشعوبِهم.
أعوذُ بالله من شرّ الناس الذين اؤتمنوا على أعراضِ الناسِ، فجعلوها عرضةً لكلامِ الناسْ.
وأعوذُ بالله من الذين اؤتمنوا على الكلمةِ فخانوا الأمانة، وأوردوا الناس موارد الهلاك.. وعزّزوا الجهل والفرقة، ففرقوا وفتّتوا، وزوروا وجزؤوا، وصنّفوا وحرّفوا، وتهيّؤوا فهيؤوا للناس الزيفَ حقيقةً، وهيؤوا لأنفسهم مقاعدَ في النار، يحاكِمون ويحكُمون من منابر الكلام: يزكّون ذاك، ويكفّرون هذا، كأنهم شقّوا قلبَ هذا، وقلبَ ذاك، كأنهم شقوا قلوب البشر وعلموا ما بها!
فويلٌ لهم، وويلٌ للشتّامين اللعّانين، وقد نُهوا فأبوا.
وويلٌ لمن ينظّرون من تحت أجهزة التكييف ليُدخلوا غيرهم نيران الحروب والتهجير والفقر والجوع.. يبثون سموم الكراهية والفرقة والتجزئة ويؤسسون للخراب، ثم يتباكون على الأمن والأمان، وما كان.
يهدّمون أركان أمتهم وأوطانهم، ويهدّمون بيوتهم بأيديهم في النهاية وهم يدركون، وقد لا يدركون، كتلك التي نقّضتْ غزلها.
فـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} (1-6) سورة الناس.
وأعوذ بربّ الناسِ، من شرّ الناسِ، ومن شرّ شياطينِ الناسْ!!
وأعوذ برب الناس من كلّ مشّاء بنميم، ومن كلّ منّاع للخير، ومن كلّ معتدٍ أثيم.
فيا أبناء الأمة، ويا أصحاب الكلمة منهم، وقد كثرت منابرها ومواقعها في كل مكان، وسهل بثها في الفضاء دون رقيب أو حسيب، لا تستخفّوا بكلمةٍ توردكم، وتورد أهلَكم وأوطانَكم الجحيم.
أرأيت يا أختي؟ لقد قلت لهم هذا قبل أحداث الشرقية الأخيرة بسنوات، قبل محاولات زج الوطن في نيران الفتنة والاقتتال، لكن هيهات هيهات!
أبشركِ أنهم سقطوا ونجح ونجا الوطن!
ولكن كل هذا جانبٌ مما يفعله الكلام ومن يظنون أنهم سادة الكلام، وهو جانبٌ من جوانب تأثير الكلام على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، تأثيره على الوطن والأمة.
والآن وقد بحت لك بما يشغلني، وقضيتُ معك من الوقتِ ما أسعدني، لك مني من الكلام أجمله وأسماه، ومن الدعاء أزكاه، يا من تعلمتُ في بيتها حروفَ الهجاءِ وأولَ النطقِ والكلام..
فالسلامُ السلام.