أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(18 - القويعيَّة أرض الميعاد، والبحث عن يسوع!)
إن الأغرب- بعد تطواف (د. كمال الصليبي) بـ(بني إسرائيل) في متاهات الجزيرة العربيَّة- أن تعرف أنهم لم يكونوا ناوين الاتّجاه إلى أرض الميعاد أصلًا، ولا إلى (فلسطين/ الفلسة)، ولا إلى (أورشليم/ آل شريم)، بل كانوا مزمعين الوصول إلى (اليمامة) في (نجد).. وتلك كانت غاية أمانيهم! لكنهم لسوء الطالع تاهوا في الطريق وهم يسعون خلف الصُّوَى والتحويلات المروريَّة الموصلة إلى اليمامة! فما كان منهم إلّا أن وجدوا أنفسهم أخيرًا لا في اليمامة بل في (اليَمَن)! لا لشيء إلّا لأن واديًا هناك اسمه (سيّان). وسيّان كان ذلك واديًا أو كان جبلًا، فالمهمّ أن ثمَّة واديًا ما، إلى جانب جبل ما بطبيعة الحال؛ فلعلّ اسم الوادي كان اسمًا للجبل، أو لعلّ اسم الجبل كان اسمًا للوادي، فالمراد إثباته- بشكلٍ أو بغيره- هو أن سيّان: (طورُ سيناء)!
فأين، إذن، ذهبت الدِّيار المقدَّسة؟!
وأين ذهب الوعد الإلهي: «فَقُلْتُ أُصْعِدُكُمْ مِنْ مَذَلَّةِ مِصْرَ إلى أَرْضِ الكَنْعَانِيِّينَ والحِثِّيِّينَ والأَمُورِيِّينَ والفِرِزِّيِّينَ والحِوِّيِّينَ واليَبُوسِيِّينَ، إلى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وعَسَلًا»؟!(1)
أصارت (القويعيَّة) أرضَ الميعاد التي يوعدون؟!
ثمَّ أيّ قائدٍ رسولٍ ملهمٍ هذا الذي يريد أن يتَّجه شمالًا، فإذا هو يتَّجه جنوبًا؟!
بل كيف صار المِصْريُّون هم الذين يوجِّهون الرَّكْبَ الإسرائيلي إلى دياره، التي يُفترض أنها ديار آبائه وأجداده وأرض ميعاده، وهو يتأبَّى، ويُراوغ، ويَفِرُّ عنها جنوبًا، وبقيادة (موسى)؟!
هنا يواصل بنا الصليبي مشواره، قائلًا إن القوم أرادوا أن يخرجوا إلى (الضبطين) بمنطقة القويعيَّة في نجد؛ غير أن حرس الحدود المصرامي كان لهم بالمرصاد؛ فإذا العبرانيُّون بقيادة موسى (العسيري!) يشطحون جهة (نجران)، فـ(الربع الخالي)، وكان ما كان! قد يقول قائل: إنهم لم يريدوا دخلوها حتى يخرج منها القوم الجبّارون، كما هي القِصَّة المتواترة. غير أن هذا القول بالإرجاء، مع بقاء الهدف، شيءٌ، والقول بأن غايتهم كانت وجهةً أخرى، شيءٌ آخر. والواقع أن محرِّك هذه البوصلة الخرافيَّة من التيه ليس سوى البحث عن الأسماء من قِبَل الصليبي نفسه؛ ذلك لأن أسماء الأماكن التوراتيَّة لم تنضبط للرجل في اتجاهٍ واحدٍ، ولا على جادّة مستقيمة سالكة؛ فأصبحت (فلسطين/ الفلسة) في جهة، وأصبحت (أورشليم/ آل شريم- النماص) في جهة، وأصبحت بقية الأماكن التوراتيَّة في أماكن أخرى مختلفة، بل صار بعضها لا يتوافر بين يديه في الجنوب الغربي من شِبه الجزيرة العربيَّة، ولكن في نجد، وبعض آخر في عُمق اليَمَن. وعليه كان مضطرًّا أن يدوخ بنا وببني إسرائيل السبع دوخات، في حلزونيَّات من المعارج، كان تيه موسى وقومه أرحم منها. وتبخَّرت وَفق البوصلة الصليبية أرضُ الميعاد، وضاعت أورشليم وغير أورشليم في الطريق. فلقد دار المؤلِّف- سامحه الله- بشعب الله المختار شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا، في صورةٍ كوميديَّة؛ تبعًا لمغناطيس الأسماء المترامية الأطراف في كلِّ اتجاهٍ من جزيرة العرب.(2)
حتى إذا جاء لاحقًا إلى قِصَّة (يسوع)، أو (عيسى بن مريم)، ابن أخت (هارون)، حسب الرواية القرآنيَّة، رأيناه يذهب مذاهب أخرى؛ لا يعزو فيها الأحداث إلى جنوب الجزيرة العربيَّة الغربي كما كان يفعل من قبل، بل سرعان ما انتقل التاريخ إلى (فلسطين)، حيث الصراع بين (اليهود) و(الرومان) من جهة و(عيسى) وحواريّيه من جهة مقابلة. وهو بالتأكيد سينفي أن (مريم) أُمَّ يسوع هي أخت هارون أخي موسى؛ لأن بين مولد يسوع ووجود تلك المريم والهارون والموسى أكثر من ألف عام!
على أنه سيُشير إلى أن يسوع وُلِد في (الجليل)، لا في (بيت لحم)، وأن الجليل هذا ليس بجليل فلسطين، بل (جليل الطائف)، وهو وادٍ هناك! وأن (الناصرة) فرعٌ من قبيلة (بِالحارث) في وادي (ميسان)، زاعمًا أن كثيرًا من أسماء القبائل أصلها أسماء أماكن! على أنه لم يورد لنا مثالًا واحدًا على تلك الكثرة من أسماء الأماكن التي تحوّلت إلى أسماء قبائل.(3) كما ذهب في هذا المعمعان إلى أن (يهوذا الإسخريوطي)، المتّهم بخيانة يسوع وتسليمه إلى اليهود لصَلبه، يعود إلى مكان اسمه (القَريَة)، من قُرَى (عُتَيْبَة)- ولا تسأل: لِمَ هذه القَريَة تحديدًا دون قُرى أخرى لا تُحصى في الجزيرة؟!- تقع في وادي (لِيَّة)(4) بمنطقة (الطائف)؛ فيهوذا لذلك: «القريوتي» أو «القريوي»، وليس «الإسخريوطي».(5) وهكذا يستمر منهاج الصليبي في القصّ واللصق، قصّ الأسماء من الكتاب المقدّس وإلصاقها بأسماء أماكن أو قبائل في الجزيرة العربيَّة.
أمَّا يسوع، فيرى أنه ليس بعيسى بن مريم أصلًا. بل هو يسوع الناصري ، القادم من وادي (الجليل بالطائف)، وهو أمير من بيت (داوود)، كان يسعى لاستعادة مُلك جدِّه داوود في بني إسرائيل. فذهب إلى فلسطين، واصطدم باليهود هناك لأسباب دِينيَّة وأسباب سياسيَّة، حتى انتهى به المطاف إلى أن قبضوا عليه فحُوكِم وصُلِب. وأمَّا عيسى بن مريم، فهو (عيسى بن مريم بنت عمران)، أخت (هارون وموسى)، من البيت الهاروني اللَّاوي. وهو النبي الموصوف في القرآن، ذو المعجزات في ميلاده وفي أعماله، الذي ما قَتلوه ولا صَلبوه، ولكن مات موتًا طبيعيًّا، فرفعه الله إليه. وكانت قد غَلَتْ في عيسى هذا فِرقة من شيعته، فزعموا أنه ابن الله. ولقد كان (يسوع الناصري) نفسه من أتباع عيسى بن مريم، دِيانةً. وكان لعيسى بن مريم إنجيلٌ مفقودٌ، لعلَّه اطَّلع عليه (بولس) في بلاد العرب، التي رحل إليها، كما أشار إلى ذلك في «أعمال الرُّسل»، وقد مثَّل ذلك الإنجيل المصدر لما نَسَبَه من بَعدُ إلى يسوع من أمور. ذلك أن بولس كان يهوديًّا، يضطهد النصارى وينكِّل بهم أَنَّى ثَقِفَهم، وربما سُمِّي شاوُل، ثمَّ إذا هو يتحوَّل بقُدرة قادرٍ إلى مبشِّر بيسوع (سنة 43م)، بعد رؤية مناميَّة رآها، تأسَّست على تصوُّراتها العقيدة المسيحيَّة، ومنها بُنوَّة المسيح لله! وبذا فإن الصليبي يرى، من خلال كتابه «البحث عن يسوع»، أن النصارى لفَّقوا بين شخصيَّتَين، هما شخصيّة (عيسى بن مريم بنت عمران) وشخصية (يسوع الناصري بن يوسف النجار)، مجهول الأُمّ، بما انتهى بهم إلى تصويرهما شخصيَّةً واحدةً، وإلى نَسْج قصتَيهما قِصَّةً واحدة، تأخذ تفاصيلها من كلتا الشخصيَّتَين والقِصَّتَين، ومن ثَمَّ نشوء عقيدة على تلك الشخصيَّة الملفَّقة من شخصيَّتَين والقِصَّة المركَّبة من قِصَّتَين. وبهذا يعتمد الصليبي الروايةَ القرآنيَّة على أنها الرواية الصحيحة حول النبي عيسى بن مريم، وأن ما أُضيف إلى قِصَّة عيسى بن مريم من حكاية الصَّلْب إنما جاء مقتبَسًا من قِصَّة يسوع، وما أُضيف إليها من مسألة التأليه والتثليث إنما يعود إلى مذهب الغُلاة في عيسى من أشياعه. وفي المقابل فإن ما أُضيف إلى قِصَّة يسوع، من حيث مولده، ومعجزاته، وادِّعاء بنوَّته لله، ونسبته إلى أُمّه العذراء مريم، كلّ ذلك لا أصل له، وإنما هو مشتقٌّ من قِصَّة عيسى بن مريم، ومن شطحات الغُلاة من شيعته في تلك القِصَّة.(6) هذا ملخّص موف الصليبي في هذه المسألة. على أنه هنا لم يقدِّم إجابة شافية حول شخصيَّة (يوحنّا المعمدان). ذلك أن يوحنا هذا هو (يحيى بن زكريا)، حسب إقرار الصليبي، و(زكريا) هو المتكفِّل بشأن (مريم بنت عمران)، أُمّ عيسى بن مريم. فكيف أضحى يوحنّا هذا في براري «عبر الأردن» بعد عِدَّة قرونٍ من حياة زكريا أبيه، وصار قَرِيْنًا لسيرة يسوع، ومعمِّدًا له؟! ومهما يكن من أمر، فليست مناقشته في هذا ممَّا نحن بصدده، وإنما يعنينا في هذه القراءة منهاجه الاستدلالي المضطرب في نِسبة الأحداث التاريخيَّة إلى بعض المَواطن، وتبنِّيه من المصادرات ما لا دليل عليه، ولا برهان يعوّل عليه، ولا مستند فيه لديه سوى تشابه الحروف والأسماء.
وهكذا فإن المتأمّل في منهاج الصليبي سيلحظ أنه يتأرجح بين حالتين: حالة من الطرح يبدو فيها على مستوى رصينٍ من العِلْميَّة والموضوعيَّة والرؤية المتفطِّنة، وحالةٍ أخرى يشتعل فيها رأسه هوسًا بالتأويل، فتسقط الضحايا المنهاجيّة تباعًا من أجل نكران الصِّلَة الجغرافيَّة لما ورد في الكتاب المقدَّس بفلسطين، ونسبته إلى (شِبه الجزيرة العربيَّة)؛ فإذا هو ينحدر إلى افتراضاتٍ متهافتة، لا مبرهنة، ولا حتى مقنعة افتراضًا. ذلك أنه قد انطلق من تلك البِذرة الفرضيَّة التي استهلكته، فما لبثتْ أن تحوَّلت بين يديه إلى عقيدة يقينيَّة تفرض سلطانها عليه. حتى بدا في أشقى أطواره معانيًا من وسواسٍ قهريٍّ، يسوقه قسرًا إلى البحث عن مُقابِلٍ مكانيٍّ في الجزيرة العربيَّة لكلّ عَلَم من أعلام الكتاب المقدَّس، بما في ذلك أعلام الناس. ومن شواهد ذلك بحثه عن (جليلٍ) و(ناصرةٍ) في (الحجاز)، لنِسبة يسوع إليهما. ثمَّ زعمه أن عيسى بن مريم كان يَكْرِز في الجليل والناصرة المزعومَين في الحجاز. وذهابه إلى أن يسوع، حين قَدِم من الجليل والناصرة الحجازيَّين إلى فلسطين، وجدَ مثلَيهما في فلسطين وباسمَيهما تمامًا! وكان قد حدث مثل هذا لدى الصليبي من قبل حين قسَّم شخصيَّة (إبراهيم) إلى شخصيَّاتٍ عِدَّة، ثمَّ وَجَدَ أن أسماء الأماكن تتكرَّر مع تلك الشخصيَّات، فلم يجد بُدًّا من أن يُسلِّم بمعقوليَّة ذلك التكرار أيضًا. وبمثل هذا ظلّ يُورِّط أعماله في غير يسيرٍ من التكلُّف والتمحُّل والادِّعاء.
** ** **
(1) العهد القديم، سِفر الخروج، الإصحاح 3، 17.
(2) انظر: الصليبي، (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)، 236- 000.
(3) انظر: الصليبي، (1999)، البحث عن يسوع: قراءة جديدة في الإنجيل، (عمّان: دار الشروق)، 55- 56، 61، 127- 000.
(4) وادي (لِيَّة) هذا يقع جَنوب (الطائف)، وثَمَّة وادي (لِيَة) جنوب منطقة (جازان).
(5) انظر: البحث عن يسوع، 95.
(6) انظر: م.ن، 107- 000.