د. حسن بن فهد الهويمل
يقول الفيلسوف [لي روا]:- [إن التفكير في العدم، هو عدم التفكير] ومن يغامر في الحديث عن [اللاشيء] يكون كمن لايدري مايفعل، وما يقول.؟وأنا في حديثي عن تجربتنا الطويلة، والمريرة مع [اليمن] لا أتقمص [العدمية] التي ترى أنه لايوجد شيء على الإطلاق.
فاليمن مَوْجود، كما النقش على الحجر. لكنني، وأنا أبرئ نفسي من القول في [العدم] و[العدمية] أمُدُّ بسبب خفي إلى هذه السوفسطائيات الفلسفية.
[اليمن] موجود، بعراقته، وتراثه، وبرجالاته المطاردين، والمشردين، وبشراره المسيطرين العابثين.
ولكنني مع هذا عاجز عن إدراك أبعاده، ومتناقضاته، ومضمرات مكوناته. إذ ليس كل موجود مستكنه على حقيقته، كعالمي الملائكة، والجن، وسائر الغيبيات.
ولو أخذت مفردة إنسانية من سياقاته الغرائبية، وليكن [علي عبدالله صالح] لكان كالفراء، كل المتناقضات المزريات في جوفه.
ومع تفلته على كل القيم، يود لو كنا أغبياء جاهزين، للأخذ بيده من ردغة الخبال، ليكون لنا عدواً، وحزناً. مثلما كنَّا من قبل قد صنعناه من لاشيء، ومثلما أنقذناه من الموت المحقق.
ولك أن تستدعي مفردة جمعية، كالقبيلة، أو الطائفة، أو الحزب، أو الإقليم، لتجد ذات السمات المزعجة.
لقد قَلَّبنا الأمور مع كافة المكونات السكانية اليمنية، ولن نستبين الرشد، حتى نجعل بيننا، وبينهم ردما، وندعهم يصطرخون، فيما أوقدوه من نار بطوعهم، واختيارهم.
الشيء المفزع أن كلمة [العدمية] أطلقها الفيلسوف [تورغنيف] على مذهب سياسي، يتسم بالفردانية المتشائمة، المتقلبة، القلقة المتناقضة.
وذلك بعض ما شَرْعَنَ لي التوسل بهذا المصطلح المشترك، لتفكيك الظاهرة اليمنية.
و[العدمية] في المجال السياسي، تعني الرفض لكل سلطة مدنية، أو عسكرية، قبلية، أوطائفية، شرعية كانت، أو غير شرعية. وهكذا تكون الأحوال اليمنية.
الأغرب من ذلك كله أن [العدمية] مُسَمَّى لمجموعة إرهابية. و[اليمن] بفعل مكوناته السكانية، يجسد الإرهاب في أبشع صوره، وأقبح هيئاته.
المهم في الأمر أن هناك إرهاباً، وهناك فوضى سياسية. ولليمن عبر تاريخه السياسي الحديث النصيب الأوفى من هذه الأشياء غير السويّة.
ولأنه ضريع، لايسمن، ولا يغني من جوع، ومضارع لنا، أرضاً، وعروبة، وإسلاماً، فقد نفدت كنانة التجارب معه. وهي تجارب أرهقتنا، واستنزفت كل الخيارات.
ولما لم يبق إلا خيار الغزو، وهو مالم يكن في الحسبان، فإن أمامنا خيار الاعتزال، لقدرتنا على ممارسته.
فمن يأتي بِزُبر الحديد، وبالنافخين، حتى لايستطيع أي مناوئ لنا من سائر المكونات اليمنية أن يظهر عليه، ولا يستطيع له نقبا.
إنني، وأنا أتحدث عما نحن عليه في الشأن اليمني، أكاد أنزلق في [اللاأدرية] المؤدية اضطراراً إلى التوقف في الشأن اليمني المضطرب.
إن هناك حسابات، وبدهيات، ونظريات، وممارسات في سائر الأوضاع السياسية، وتقلباتها. والعقلاني لايستطيع أن يضع اليمن في حقل منها.
والمملكة العربية السعودية، لُدِغَت عشرات المرات في جحر اليمن، وقد تَدُسُّ يدها للمرة الألف في ذلك الجحر المليء بالعقارب، والحشرات السامة، سَعْيا وراء استلال الأحقاد، والضغائن، والسخائم، وأملاً في وضع اليمن على الصراط المستقيم، صراط الدول المدنية الساعية إلى حسن الجوار، والانشغال بالإعمار.
تفعل المملكة ذلك، وهي متيقنة أنها ستلدغ المرَّة، تلو الأخرى، ولكنها تود أن تكون كل دَسَّةٍ هي الأخيرة، وهي الشافية، الكافية، العائدة باليمن، وأهله من الاضطراب إلى الاستقرار، و من نكد الحياة، إلى العيش الكريم.
اليمنيون يعرفون أن [المملكة] ليست لها مطامع في اليمن، في حين أن اليمن لاينطوي على مطامع، ولايتوفر على مغريات، وهو كَلٌّ على مَوْلاه.
واليمنيون -أيضاً- يعرفون أن من مصلحتهم التصالح مع المملكة. بل يرتبط مصير اليمن، واستقراره بحسن الجوار.
ومع هذا يجد [اليمن] لذة، ومتعة في إيذاء المملكة، والنيل منها، وكل صيحة ضدها ينطلقون إليها، وهم يجمحون، ويمنحونها كل مايقدرون عليه.
قد يكون مايقترفون من باب الضغط الغبي، ظنا منهم أن المملكة لاتعطي إلا راهبة.
كنت ذات مرة أنقب في تراث الموسوعي [خير الدين الزركلي] لإبراز براعة [الملك عبدالعزيز] رحمه الله في احتواء الكفاءات العربية، والعالمية، والاستفادة منهم. فعثرت صدفة على قصيدة ألقاها في حفلة أقيمت [بمكة المكرمة] فرحة، وإبتهاجاً بنجاة الملك عبدالعزيز من غدر ثلاثة متآمرين يمانيين، أرادوا اغتياله، وهو يطوف بالكعبة، صبيحة عيد الأضحى، والتي يقول فيها:
البَغْيُ والكَيدُ مَدَّا حوله شَرَكاً...
فكان في شرك الجانين حَتْفُهُم
قلت في نفسي سبحان الله، وهل سيجد اليمن أذكى، وأزكى، وأعطف، وأندى يداً من عبدالعزيز..
لماذا أقدموا على الغدر به، وهو يكمل شعائر حجه في المطاف، في بَيْتٍ مَنْ دخله كان آمنا. إنه اليمن، ولا غرابة.
عداوتان أكاد أقطع بأنهما متأصلتان، ولايرجى زوالهما: عداوة [الفرس] للعرب: سنة، وشيعة. وكيد [اليمن] للمملكة، وهي المنعمة المتفضلة.
ومع ذلك تظل المملكة تحاول جاهدة سل السخائم، واحتواء المواقف بالتي هي أحسن.
ومنذ الإطاحة بـ[آل حميد الدين] الأصدقاء الألداء، واليمن في لجة الفتن، ونحن معه كالإطفائي الذي يردد:
[أريد حياته، ويريد موتي ... شتَّان بين مُراده ومُرادي].
وتمضى الأيام معه قلقلة خائفة، نستقبل عمالته الجاهلة بالملايين: نظاميين، ومتسللين، وكلتا الفئتين تكسب الخبرة، والعملة الصعبة، وتعول ملايين الأسر في اليمن، مع ما تدفع المملكة من المساعدات، تلو المساعدات. تعمر، وتصلح، وتداوي، وتكمل البنية التحتية، وتدفع المال بغير حساب.
حتى إذا جاءت الثورة اليمنية المشؤومة على الأمة العربية. وحين أقول على الأمة العربية، فإنني أعرف ما أقول، وأتحمل مسؤولية ما أقول.
عندما قامت الثورة، جُرَّتْ قَدمُ [مصر] الدولة العربية الأكبر، والتي تمثل العمق [الاستراتيجي] للأمة العربية.
ودخلت [مصر] بقضها، وقضيضها، في أتون الحرب الأهلية، الهمجية، المتوحشة، وقتل على ثرى اليمن عشرون ألف شاب مصري، ودمرت آليات الجيش المصري، ومعداته، وانهارت معنوياته، وصُعِّد الخلاف بيننا، وبين مصر، حتى ضُرِبت حدودنا بالغارات الجوية.
واستطاع الملك [فيصل] رحمه الله بحكمته، وحنكته، وبعد نظره امتصاص تلك الاعتداءات، بحيث فوت على المتآمرين فرصة الدخول في حرب مدمرة.
وخرجت مصر من اليمن منهكة، محطمة المعنويات، والمعدات، لم تنل من مغامراتها إلا الخسارة الفادحة، وتحطيم قدرات الجيش المصري، وذهاب ريح القومية العربية، لتجئ في أثناء التفكك العربي الطامة الكبرى حرب [الأيام الستة] التي وُقِّتَ لها بذكاء، وخبث، فأذلت الأمة الأمة العربية، وغيرت موازين القوى، وخيبت آمال الشعوب العربية بقادتها، وبجيوشها.
فاليمن، ومشاكل اليمن، جعلت مصر لقمة سائغة، للعدو الصهيوني. وهكذا كانت الثورة شؤماً على الأمة العربية.
ولولا جرائر اليمن، لما تجرأت [إسرئيل] على ضرب ثلاث دول عربية، واحتلال أجزاء مهمة من أراضيها. إنها اليمن، ولا غير اليمن.
وتمضي [اليمن] في دروب الفتنة، تدمر نفسها بنفسها، وينعكس أثر ذلك على دول الجوار، فحدودنا الأطول، والأسوأ طبيعة، منتهكة بالمتسللين، والإرهابيين، والمهربين للأسلحة، والمخدرات، والمسروقات.
وأخيراً تنبت في أرجائه شجرة الزقوم، حين بدت الطائفية، بعد القبلية، والاقليمية، ويتصدع المتصدع، ويتمزق المتمزق. وتقوم حرب ضروس بين [الحوثيين] و[الحكومة] اليمنية، وتَدُسُّ الرافضة [المجوسية] أنفها، لجعل بأس العرب بينهم شديد، ولإيذاء المملكة، وشغلها عن مهماتها الحضارية، والإنسانية.
وتأخذ اليمن دورها في السلسلة الصدئة بعد [العراق] و[الشام] و[لبنان] في حين ينجو [السودان] في اللحظات الأخيرة، وتستيقظ [مصر]، وتقطع دابر الطائفية.
ونجد أنفسنا مضطرين إلى الخروج من نطاق القوة الناعمة، المجادلة، والمهدئة والمحتوية إلى الحرب الضروس، التي لم تكن خيارنا المفضل.
ولما لم نكن من جناة هذا الوضع الملتهب في اليمن المتمثل بالغزو الفارسي، المتقنع بالطائفية، وصراع كافة شرائح المجتمع اليمني، فإننا اليوم نصطلي بحره.
لقد أخذ التحالف العربي بقيادة المملكة خيار الحرب، كواحد من الحلول الاضطرارية، التي مارسها مع [اليمن].
وأحسب أن التحالف لن يصل إلى النهاية المتوخاة، إلا بعد جهد جهيد.
وإذ نراهن على حماية أنفسنا، وحفظ حدودنا، فإننا نشك باستبانة اليمن للرشد، وجنوحها إلى السلم.
وستظل اليمن في حربها الأهلية، تأكل نفسها، بطوعها، واختيارها. فاليمن بيت الداء، والردم بيننا، وبينه رأس كل دواء.
التحالف العربي اتخذ خيار الحرب. ولو لم يتخذها بالسرية، والمباغتة، فإنها واقعة، ولابد. فالعدو المتمترس وراء الأغبياء، أرادها على أرضنا، وأراد لنا خيار الدفاع.
و[المملكة] لاتريد أن تكون الحرب على أرضها، ولا أن يكون جيشها في موقع الدفاع، ولا أن تفرض عليها بالشكل الذي لاتريده.
إن من الحصافة، وحسن التدبير أن تختار المملكة الزمان، والمكان، وشكل الحرب، ومستواها.
ومبادرة التحالف، لاجهاض المؤامرة في عقر دارها، ودحر الصائل قبل أن يدبر أموره، ولاسيما أنه لاينطوي على مثمنات، ولايقيم وزناً لحجم الخسائر البشرية، والمادية، ولايقيم وزناً للقيم المعنوية، ولايحترم موقف العالم من التعدي، والوحشية، مبادرةٌ جاءت في الوقت المناسب.
المملكة تحترم الأعراف الدولية، وتتفادى ضرب المساكن، والأبرياء، وتلتزم بالعهود، والمواثيق، وتحترم إنسانها.
وكل حساباتها ضد الحرب، ولكنها على موعد معها، شاءت، أم أبت. فكان أن اختارت الهجوم المباغت، وأرض العدو، ليكون المواطن في منأى عن لهيب الحرب. ولما كان اليمن مُفككاً بهذا الشكل، ومتناحراً بهذه الصورة، وهو مشروع فتنة، يؤجر نفسه لها، فإن السهم الأخير المتبقي في الكنانة [الجدار العازل] المتأبي على الظهور، أو النقب.ومن أراد المصلحة، والكسب المشروع الحلال، فليأت البيوت من أبوابها.
لقد كان السهم ماقبل الأخير [عاصفة الحزم] وإذ قطعنا دابر استنزافنا، فإن السهم الأخير حق مشروع، ومحققٌ لسيادتنا، وأمن مدننا، وقرانا الحدودية.