د. جاسر الحربش
أكتب هذا المقال بعد تبادل حوارات ومراسلات مع عدة أصدقاء من المذهب السني والشيعي. لن أتحدث هنا عن التمذهب الإقصائي المقتنع بالتقوقع والأفضلية، فهذا هو اللعنة التي يحرص على التخلص منها من هو أرجح عقلا ً وأعمق فهماً للمحتوى الإنساني التعارفي والتعايشي في العقيدة الأصلية، في الإسلام الأول قبل أن تمذهبه السياسة والاجتهادات الفقيهة والشعوبية والعرقية العنصرية.
لا أدري كم هي نسبة المدركين للمأزق المصيري الذي أدخلنا فيه المتكسبون بالمذاهب والعنصريات من الفئات الأربع المذكورة أعلاه. لا أعتقد أنها نسبة كبيرة بما يكفي لإحداث التغيير السريع، ولا قليلة بما لا يفي بإحداث التأثير على المدى الطويل، ولكن مسؤوليتها عن صياغة المستقبل أكبر كثيرا ً مما يتوقع.
أحاول هنا أن أتحدث إلى المثقف بمعنى صاحب العقل المعرفي المدرك لما يدور حوله، وليس للمفكر المنصرف إلى التنظير بمعزل عن الناس ولا للمتفلسف الذي يفكك الظواهر والأشياء إلى أجزاء صغيرة يصعب جمعها والاستفادة منها. أريد أن أتحدث بالصراحة التي يتقبلها الظرف المتأزم اجتماعياً، وتحديداً إلى المثقف المتمسك فقط بهويته الأصلية، دون اعتبار لتفرعات المذاهب التي خربت على الناس ديارهم وتعايشهم وسممت عقول أجيالهم ولطخت بالدماء التزامهم الشرعي بالمقاصد الأسمى للدين الجامع.
أبدأ بسؤال: هل نحن، باعتبارنا من المشمولين بالتعريف أعلاه، عندما نجلس إلى ندوة حوار نوعية، نتبادل همومنا وآمالنا بطريقة صافية خالية من الشوائب والعوالق المذهبية والتربوية، أم أننا نقول الصدق فقط في بعض ما نقول ونجامل في بعضه ونتكاذب في البعض الباقي. ثم يتبع سؤال آخر عن كمية العدالة وكمية المجاملة وكمية التكاذب فيما نقوله لبعض ؟. السؤال الأخير عن إمكان وصولنا ككتلة وطنية واحدة إلى بر الأمان، مقابل احتمال أن يغرقنا الإرهاب الفئوي في التفكك والضياع.
للإجابة الصريحة على هذه الأسئلة نحتاج أولاً إلى الإفصاح المتبادل عن ما له علاقة بخصوصياتنا التربوية والاجتماعية وما ترسب فيها من التلوثات الإقصائية والعنصريات القبلية والتمايزات الطبقية والمناطقية. لا أعتقد شخصياً بوجود شكوك في رغبة الجميع في الوصول إلى بر الأمان والمحافظة على الوطن الواحد بما يحفظ أمن ورفاهية وكرامة الجميع.
لكن تبقى أسئلة كثيرة مبدئية تستوجب التعامل معها كمدخل إلى حوار وطني صحي.
أولاً: هل يعتقد المتمذهب الشيعي عندما يتهم الطرف السني بالنصب والتكفير أن مذهبه هو خال وبريء من النصب والتكفير حسب اشتراطات الإيمان والموالاة والبراءة في المذهب الشيعي؟. وهل يعتقد المتمذهب السني عندما يتهم الطرف الشيعي بالخروج من الإسلام أن مذهبه هو خال وبريء من الخروج على القواعد المؤسسة لاعتبار المسلم مسلماً عندما يجمع أركان الإسلام والإيمان في قلبه وعباداته وأن ما عدا ذلك مرده إلى حساب الله ولا دخل للمذاهب الفقهية فيه؟. بناءًً على ذلك والكلام موجه لأتباع المذهب السني، ألا تكون استباحة الدم والعرض والمال على الهوية المذهبية خروجاًً على القواعد الأساسية بالإسلام؟.
ثانياً: عندما يصم أتباع أي من المذهبين أتباع المذهب الآخر بالدموية والإرهاب والتحريض، هل يستطيع فعلا ً إعلان براءته هو مما يتهم به الطرف الآخر عندما يراجع نفسه ويزنها بميزان الضمير الصادق مع نفسه قبل الآخر، أم أنه عندئذ سوف يدرك تعادله تماماً مع الطرف الآخر في نفس المساوئ الإقصائية والتكفيرية؟.
ثالثاً: المثقف السعودي تحديداً المحسوب اجتماعياً على أحد المذهبين، عندما يطلب إعلان حسن النية والمحافظة على الهوية الجامعة والموافقة على سن نظام عقوبات يجرم التعدي عليه هو بالذات، هل هو مقتنع فعلاًً أنه نقي السيرة والطوية الوطنية ولا يوجد في مجتمعه الخاص ما يتبرؤ منه من الجرائم الشنيعة المحسوبة على أتباع مذهبه ضد أتباع المذهب الآخر، وهل يعتقد أنه بريء تماماًً من اتهامات ازدواجية الولاء، وكأن هذه التهمة مجرد لوثة عقلية تعشش في مجتمع المذهب الآخر فقط؟.
لا أعتقد مطلقاً بعدالة المطالبة بالتنازلات من طرف واحد، بل وبخطورتها لأنها قد تكرس العزلة والإقصاء أكثر مما تقرب. المجال لا يسمح للأسف بالاسترسال في المزيد من الأسئلة المحتاجة إلى مصارحة وإبراء ذمة، لكي يصبح الحوار مقبولاًً وخالياًً من الظلم والمجاملة والتكاذب.
بهذا المقال أحاول فتح الباب إلى مزيد من المساهمات في تعزيز المواطنة المدعمة بمواصفات وأفكار المثقف المغسول قلبه من شوائب التاريخ المذهبية، آملاً في استثارة مشاركات أكثر صراحة.